بصائر الضيافة _ ح 7
التوبة النصوح نافذة للضيافة
التوبة النصوح: هي التوبة الخالصة لوجه الله تعالى ، والصادقة في ترك الذنوب ، والبالغة في النصح ، و النقية من الغش ، التي ينوي التائب فيها عدم معاودة المعصية أبداً ، قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..}
، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَخِيرَ عليه السَّلام عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَا هِيَ؟ فَكَتَبَ عليه السَّلام : ( أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ كَالظَّاهِرِ وَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) ([1])
وَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ وَ غَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السَّلام قَالَ: ( التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُ الرَّجُلِ كَظَاهِرِهِ وَ أَفْضَل) ، وَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ( هُوَ أَنْ يَتُوبَ الرَّجُلُ مِنْ ذَنْبٍ وَ يَنْوِيَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ أَبَداً ) ([2])
شروط التوبة النصوح:
1 _ ترك الذنوب نهائيا ، وإغلاق صفحة الماضي تماما.
2– استشعار الندم على ما صدر من ظلم و ذنب وتقصير .
3– اتخاذ القرار الحاسم والصادق بإرادة وعزم على عدم العودة للمعصية التي تاب منها ابدا.
4– التصحيح العملي ما بعد التوبة ، اي مرحلة التحلل من الحقوق ، وردها إلى أهلها ، ومع العجز عن ذلك ، عليه ان يذكر المظلوم بالدعاء ، وبالصدقات وسائر الاعمال الصالحة.
تصحيح الأعمال بعد التوبة
أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم
على الإنسان التائب الذي توجه الى الله تعالى توجها صحيحا ، ويريد ان يبدأ صفحة جديدة في حياته مع خالقه جل جلاله ، ومع مجتمعه ، أن يراجع حقوق الآخرين عليه ، وهي على نوعين :
1 _حقوق أوجبها الله تعالى على الإنسان بالأصل ، كحقّ الأمّ والأب والزوجة.
2 _ حقوق أوجبها الله تعالى على الإنسان لأنّه تعدّى على الآخرين بظلم فأراد الله أن تُرَدَّ المظلمة.
اولا : حقوق الآخرين بالأصل
لهذه الحقوق تفصيل يأتي في محله ، لكن نشير الى مسألة هامة ونافعة وذات أبعاد تربوية وروحية ؛ وهي ان بر الوالدين هو محل لقبول التوبة من العباد ، فقد ورد أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وقال له:
( يا رسول الله: ما من عمل قبيح إلاّ وقد عملتُه فهل لي من توبة؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : فهل من والديك أحد حيٌّ؟
قال: أبي ،
قال: فاذهب فبِرَّه.
فلما ولَّى قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لو كانت أُمُّهُ)([3]).
فرصة للتوبة:
ان يصلي الإنسان عن والديه ، ويصوم عنهما ويحج ، ويتصدق ويقضي دَيْنَهما ، و يستغفر لهما بعد وفاتهما ، بل أكثر من ذلك مما يجدر بالإنسان التائب ان يلتفت إليه ؛ ( إنّ البِرَّ بالوالدين بعد الوفاة) قد يصحّح موقف العقوق لهما في حياتهما ، والعكس صحيح، وهو جدير الانتباه و الالتفات أيضا ، حيث ( أن قطع البِرِّ بالوالدين بعد موتها) قد يحوِّل البارَّ إلى عاقّ ، عن الإمام الصادق عليه السلام : ( ما يمنعُ الرجلَ منكم أن يبِرّ والديه حيَّيْن أو مَيْتَيْن، يصلِّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحج عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله ببِرّه وصلاته خيراً كثيراً) ([4])
و عن الإمام الباقر عليه السلام : ( إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما ثمّ يموتان ، فلا يقضي عنهما دَيْنهما ، لا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزَّ وجلَّ عاقًّا، وإنّه ليكون عاقًّا لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دَيْنهما، واستغفر لهما فيكتبه الله عزَّ وجلَّ بارّاً) ([5])
ثانيا : حقوق الآخرين (بسبب الظلم)
وهو الظلم الذي لا يغفره الله تعالى ما لم يسامح صاحبه ، ويعفو عن مسببه ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( أيّها الناس، إنّ الذنوب ثلاثة ، فذنب مغفور ، وذنب غير مغفور ، وذنب نرجو أو نخاف عليه ، قيل: يا أمير المؤمنين فبيِّنها لنا ، قال عليه السلام :
1 _ أمّا الذنب المغفور فعبدٌ عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا ، فالله أحكم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين.
2 _ وأمّا الذي لا يغفر فمظالمُ العبادِ بعضِهم لبعض ، إنّ الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قَسَماً على نفسه فقال: وعزّتي وجلالي لا يجوز في ظلم ظالم ، ولو كفٌّ بكفّ ولو مسحة بكفّ ، فيقتصُّ الله للعبادِ بعضِهم من بعض حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، ثمّ يبعثهم إلى الحساب.
3 _ وأمّا الذنب الثالث فذنبٌ ستره الله على عبده ورَزَقه التوبة ، فأصبح خاشعاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة ونخاف عليه العقاب) ([6])
وفي حديث آخر للإمام زين العابدين عليه السلام نقله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام ما يصوِّر أثرَ ظُلمِ الآخرين بشكل يُروِّع القلبَ أشدَّ رَوْعٍ ألا وهو:
( إذا كان يومُ القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حُفَرِهم غُرْلاً مُهْلاً جُرْداً مُرْداً([7]) في صعيد واحد تسوقُهم النار ، وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر ، فيركب بعضهم بعضاً ويزدحمون دونها ، فيُمنَعون من المُضِيّ ، فتشتدُّ أنفاسُهم ويكثر عرَقُهم وتضيقُ بهم أُمورُهم ، ويشتدُّ ضجيجُهم وترتفعُ أصواتُهم.
قال : هو أوّل هَوْل من أهوال يوم القيامة، فيُشرفُ الجبّار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ظلالٍ من الملائكة، فيأمرُ ملَكاً من الملائكة فينادي فيهم :
يا معشر الخلائق أَنصِتوا واستمعوا مناديَ الجبّار.
قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلُهم.
قال: فتنكسرُ أصواتهم عند ذلك وتخشعُ أبصارُهم وتضطربُ فرائصُهم وتفزعُ قلوبُهم، ويرفعون رؤوسَهم إلى ناحية الصوت مُهْطِعين إلى الداعي([8]) . فعند ذلك يقول الكافر: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾([9]).
قال: فيشرف الله عزَّ وجلَّ ذِكْرُه الحَكَمُ العدْلُ عليهم،
فيقول: أنا الله لا إله إلاّ أنا الحكَمُ العدْلُ الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يُظلَم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القويّ بحقّه ولصاحب المظلمة بالقِصاص من الحسنات والسّيئات، وأُثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبةَ اليوم عندي ظالمٌ ولأحد عنده مَظْلمةٌ إلاّ مظلمة يهَبُها لصاحبها، وأُثيبه عليها، وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيّها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهدٌ لكم بها عليهم وكفى بي شهيداً. قال: فيتعارفون ويتلازمون، فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حقّ إلاّ لزمه بها. فيمكثون ما شاء الله، فيشتدُّ حالهم، فيكثر عرقهم ويشتدُّ غمُّهم وترتفع أصواتهم بضجيج شديد، فيتمنَّوْن المَخْلَصَ منه بترك مظالمهم لأهلها.
ويطلع الله عزَّ وجلَّ على جهدهم فينادي منادٍ من عند الله تبارك وتعالى يسمعُ آخرهم كما يسمع أوّلُهم: يا معاشر الخلائق أنصِتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا، إنّ الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهّاب، إن أحببتم أن تُواهبوا فتَواهَبوا وإن لم تُواهبوا أخذتُ لكم بمظالمكم. فيفرحون بذلك لشدّة جُهدهم، وضيق مسلكهم، وتزاحمهم. فيَهَبُ بعضُهم مظالمَهم رجاءَ أن يتخلّصوا ممّا هُم فيه، ويبقى بعضُهم فيقولون: يا ربُّ مظالمنا أعظم من أن نهَبَها.
قال: فينادي منادٍ من تلقاء العرش: أين رضوان خازن الجِنان، جِنان الفردوس؟ فيأمر الله عزَّ وجلَّ أن يُطلِعَ من الفردوس قصراً([10]) من فضّة بما فيه من الآنية والخدم. فيُطلعه عليهم في حَفافة القصر والوصائف([11]) والخدم. فينادي منادٍ من عند الله تبارك وتعالى: يا معشرَ الخلائق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر.
قال: فيرفعون رؤوسهم فكلُّهم يتمنّاه.
قال: فنادى منادٍ من عند الله تبارك وتعالى: يا معشرَ الخلائق، هذا لكلّ من عفى عن مؤمن. فيعفون كلُّهم إلاّ القليل.
قال: فيقول الله عزَّ وجلَّ: لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم، ولا يجوز إلى ناري اليوم ظالم، ولأحد من المسلمين عنده مظلمة حتى يأخذها منه عند الحساب، أيُّها الخلائق استعدّوا للحساب. ثمّ يُخلي سبيلهم، فينطلقون إلى العقبة يَكْرُدُ([12]) بعضُهم بعضاً حتى ينتهوا إلى العرصة، والجبّار تبارك وتعالى على العرش، قد نُشِرَت الدواوين، ونُصِبَت الموازين، وأُحضر النبيّون والشهداء وهم الأئمّة، يشهد كلُّ إمام على أهل عالمه بأنّه قد قام فيهم بأمر الله عزَّ وجلَّ ودعاهم إلى سبيل الله)([13])
تنبيه خطير جدير بالتأمل والمراجعة
ان ( لمظالم الناس) أثر في قبول الله تعالى للعبادة ، فمن كان في رقبته حقّوق للآخرين ، وهو قادر على ردها اليهم ، مع مطالبتهم له باسترجاعها ، وهو لا يردّها ، او من كان في عنقه مظلمة لم يتحلل منها بينه وبين من وقع عليه ذلك الظلم ؛ يرفض الله تعالى دخوله المساجد حتى يؤدّيَ ذلك الحقّ ، ويتحلل من ذلك الظلم ، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله : ( أوحى الله إليّ : أن يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين أنذِر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي، ولأحد من عبادي عند أحد منهم مظلمة ، فإنّي ألعنه ما دام قائماً يصلّي حتى يردَّ تلك المظلمة ، فأكونَ سَمْعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يُبصر به، ويكونَ من أوليائي وأصفيائي، ويكونَ جاري مع النبيّين والصدّيقين والشهداء في الجنّة) ([14]}
أنواع المظالم
اولا : المظالم المعنويّة : وقد تنتج عن التعرُّض للآخرين بغير حقّ بإهانة أو استحقار أو استخفاف ، كما قد يحصل من صاحب السلطة والادارة مع مرؤوسيه وموظفيه ، ومن صاحب المال مع عماله ، وهو غير ملتفت للآثار الوخيمة المترتّبة على هذا الظلم ، فقد يكلِّفه أن يقف على باب الجنّة يُحرَم من دخولها ما لم يسامحه المظلوم .
لذلك دعا المشرع الكريم وهو ينبه ويرشد ويربي الإنسان ويصحح له مسيرته الدنيوية والاخروية في لسان روايات أهل البيت عليهم السلام لتصحيح هذا الظلم ، والتعويض عنه ، عن الإمام الصادق (ع) : (.. فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره) ([15])
ثانيا : المظالم الماديّة : وقد تنتج هذه المظالم من سرقة مال الناس ، اوغصبها رغما عنهم ، او إتلافها وغير ذلك ، ترد الحقوق هذه بأمور :
1 _ الإتصال المباشر مع صاحب الحقّ واعطاؤه حقوقه.
2 _ مسامحَة صاحب الحقّ في حقه .
3 _ ان كان يخشى صاحب المظلمة على منزلته الاجتماعيّة أو علاقته بالمجتمع ، فيمكن له أن يتسامح من صاحب الحق ، أو يردَّ حقّه بطريقة لا يتعرّف صاحب الحقّ من خلالها عليه.
ملحوظة:
ما تقدم انفا إذا كان صاحبَ الحقّ معروفا ، أمّا إذا لم يكن معروفا ، و تعذر التعرُّف عليه ، فيجب أن يدفع صاحب المظلمة مالاً للفقراء بنيَّة أنّها صدقة عن صاحب المال ويُسمَّى بـ ( ردّ المظالم ) ، وقيمة هذا المال يُقدَّر على أساس التخمين من قيمة الحقّ المتعلّق بذمَّته ، والعمل بالاحتياط افضل لأن الاحتياط باب النجاة.
حساب العُود
فقد نُقِل عن خطّ الشهيد الأوّل عليه الرحمة أنّ أحمد بن أبي الحواري قال : ( تمنّيت أن أرى أبا سليمان الداراني) إلى أن رأيته في النوم بعد سنة ، فقلتُ له : يا معلِّم، ما صنع الله تعالى بك؟
فقال : يا أحمد ، دخلت ذات مرّة من الباب الصغير ، فرأيت حِمْلَ جَمَلٍ من نبتة ( الشيح) ، فأخذت عوداً منه لا أدري خَلَلْتُ به أسناني أم لا ثمّ رميته ، وأنا منذ سنة وإلى الآن مبتلى بحسابه.
وعلَّق الشيخ عبّاس القُمّي قدس سره على هذه القصّة بقوله : ( لا بُعد في هذه الحكاية ، بل تُصدِّقها الآية الشريفة : ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ﴾([16])
، وعن أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خطبه قال : ( أليست النفوس عن مثقال حبّة من خردل مسؤولة؟) ([17])
الهامش :
____
([1]) بحار الأنوار، المجلسي، ج 6 ص 22.
([2]) ن، م.
([3])ميزان الحكمة، الريشهري، ج10 ص714.
([4])ن، م، ج 4 ص 3675
([5]) ن،. م
([6]) تسلية الفؤاد، شبر، ص169 ـ 170.
([7]) وفي المصدر عزلاً بهماً وعزلاً : لا سلاح لهم ،
بُهْماً: ليس معهم شيئاً لحية.
([8]) أي يمدّون أعناقهم لسماع صوته، مُهْطِعين أي مسرعين وأهطع إذا مدّ عنقه.
([9]) القمر : 8.
([10]) أي يظهره لهم.
([11]) الوصائف: جمع الوصيفة أي الجارية.
([12]) الكرد: الطرد والدفع.
([13]) بلاغة الامام علي بن الحسين، الحائري، ص55.
([14]) ميزان الحكمة ، الريشهري ، ج2 ص1776.
([15]) الكافي، الكليني، ج2ص45.
([16]) لقمان :16.
([17]) منازل الآخرة ، القمي ، ص137.
__
الشيخ عمار الشتيلي
البصرة الفيحاء
المجالس الرمضانية
13 _شهر رمضان _ 1445 هج