بقلم دكتور طالب الوائلي
مقال منشور لي قبل سنتين ..
أعيد نشره بمناسبة قرب الحملات الانتخابية وأهديه للمرشحين ممن يدعي وصلاً بعلي (عليه السلام).
ليلةٌ أرّقتني وسلبتْ لبّي، وأنا أحاول أنْ أجدُ ما ينفعُ أنْ أطرحهُ على مائدةِ شهر رمضان من غذاءٍ روحي وعقلي، وبعد طول تفكير بالإضافة إلى مقترحاتٍ طلبتها من متابعيني على صفحتي الشخصية، حاولتُ من خلالها أن أستنطقُ جمهور الأصدقاء علّني أصلُ إلى بغيتي، وأتمكن من كتابةِ ما يليقُ بأميرِ المؤمنين (عليه السلام) رائد العدالة الإنسانية في ذكرى استشهادهِ الأليمة، فكانت هنالك عدة مقترحات لجوانبٍ عدة، تمثل مضامين من حياة علي ابن ابي طالب (عليه السلام)، فمن جملةِ ما ورد، سؤالٌ من أحد الإخوة أثار في داخلي الرغبة لتناولهِ في هذا المقال وأُقرن المقال باعتذار لعدم القدرة على الإسهاب في تفاصيل الموضوع لكي لا يخرج عن كونه مقال ولخصوصية الموضوع، والسؤال هو الآتي:
أكان علي (عليه السلام) رجلُ دولة أم رجلُ دين؟
أترى نجح في سياسة إدارة الدولة أم لا؟
وأرى في إجابةِ السؤال الذي يستبطنُ احتمالية الوقوع في شبهتين، والتي لا أعلم
أترى تفطّن لها صاحب السؤال أم لا؟ !!
ولكن يبدو أنها نتاجُ رؤية ومبنى يتبناه الكثير حتى على مستوى الوضع الراهن والتي نصّها (بأن أهل الدين لا يصلحون للسياسة) والشبهات التي أود التنويه لها كالآتي:
الشبهة الأولى: يخلو الاصطلاح الإسلامي من مصطلح رجل دين، فالقدر المتحصل من التراث الإسلامي المعرفي هو وجود علماء الدين، فإن كان المقصود من اصطلاح رجل الدين – مضمون السؤال -هو المعنى الذي ذكرناه _ عالم من علماء الدين _ فيستقيم المعنى وأمكن أن نكمل الإجابة، وأما إذا كان المقصود به المعنى الاصطلاحي الحرفي لمفردةِ رجل دين فالجواب يكون غير ذي جدوى أصلاً، وذلك لأن مصطلح رجل الدين هو توصيف متأخر كان يستخدمه المجتمع المسيحي الكاثوليكي ويطلقه على القساوسة والرهبان الذين شكّل أدائهم الديني في حينها وبالتواطئ مع السلطة الملكية الحاكمة سنة ١٧٨٩ مثالاً للجور والطغيان والاستغلال الأبشع لثالوث (الدين – السلطة – المال) للفقراء والذين تم التخلص من سلطتهم نهائياً أبان الثورة الفرنسية المعروفة.
الشبهة الثانية: هي محاولة فصل الوظيفة الدينية عن الوظيفة السياسية وتأطير ذهنية المتلقي بأن على الدين وعلماء الدين أن يقرروا إما التفرغ للدين أو للسياسة، وهذا أمرٌ مؤسف وفهمٌ مغلوط حين ينسحب المفهوم العام للسياسة على أنه محصور بالسياسة المعاصرة والمبنية على المراوغة والخداع والمداهنة والتخلي عن المبادئ لتحصيل المكاسب لو تطلب الأمر.
ولعل الذي يقول بهذا الفهم كان قد نظر للسياسة من منظار أمويٍ بحت، ولم ينصف الطرف النقيض منهم (الأمويين) وهنا يقع الدور على كل مسلم أن يتصدى لفهم وتسويق السياسة من منظور (قرآني وحيّاني نبوي علوي) ففي الوقت الذي يقول الحق تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ويقول في سورة آل عمران (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19))
والدين هنا مما لا يدع طريق للشك يعني منهج حياة متكامل.
فكيف يظن إنسان يوحد الله أن مصير الأمة وإدارة الدولة التي تتسمى باسم الإسلام من الممكن أن تدار بغير منهج قرآني التشريع، وحيّاني الروح والنزعة، نبوي السيرة والسلوك، علوي القيادة)؟؟
وللجواب كنتيجة متقدمة للمنهج أقول:
إن الدولة التي يديرها المنهج القرآني أعلاه يجب أن تكون هي [الدولة الأخلاقية التي تمثل النموذج الإسلامي والإنساني الأمثل للدولة المدنية الحقيقية التي يريد الله تعالى لها أن تقوم على هذه الأرض، مقابل ما يطرحه أدعياء الثقافة والإنسانية والفكر الحر من أنصاف الناس من نماذج شرقية و غربية لها، من منطلق ما استقر في أذهانهم من فهم خاطئ وقراءة مشوهة لمفهوم الحضارة والتمدن والسياسة .. دولة تستمد حاكميتها من حاكمية الله في الأرض وتستمد مشروعيتها من الشريعة ومنهاجها المقدس، حكومة تحترم حقوق الإنسان وتسخر كل إمكانياتها لتحقيق وضمان كرامتهُ وعزة نفسه]
فحين نجوب أرجاء التاريخ ونستعرض رجالات الدنيا فإنّا لم ولن نجد شخصية حققت النموذج الأخلاقي والإنساني للإسلام فعلاً وقولاً مثل شخصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن هنا سنحاول أخذ قبضات من بستان حياته الشريفة باختصار للإطلاع على منهجه الأخلاقي والعقائدي والأسس السياسية التي رسخها في ضمير الإنسانية كقواعد للعمل الرسالي ومنهاج للحاكم السياسي والإداري للدولة وللفرد المسلم.
من هو علي ابن أبي طالب عليه السلام؟ ولماذا ؟
هو ذلك الإنسان الديني الكامل، والنموذج الإلهي، الذي اصطنعه الله جل شأنه لدينه، وأشرف على تربيته وإعداده إعداداً رسالياً على يد محمد بن عبد الله رسول الله (صلوات الله عليه وآله)، مع ما له – الإمام (عليه السلام) – من المنزلة والدرجة التي اختصه الله بها دون غيره، فنحن نسمع أن رسول الله (صلوات الله عليه وآله) يقول: “أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى” ويقول: “عليُ مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبي بعدي”، وهذا المعنى مصداق لقوله سبحانه في آية المباهلة: “وأنفسنا وانفسكم”، وتتواتر الآيات والأحاديث التي وردت للمسلمين والتي تعكس حالة (الإعداد والتوجيه و الوصية) من قبل النبي (صلوات الله عليه وآله) بخصوص ولاية وإمامة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبة وبيعة غدير خم أكبر شاهدٍ تاريخي، ولو سألنا أنفسنا بالعقل المجرد بهذا السؤال
لماذا كل ذلك الإعداد والاهتمام بإعداد البديل من قبل رسول الإنسانية ؟
الجواب: طبعاً لأنه يريد أن يقول لنا أن الإسلام هو الحاكم في إدارة الدولة والسياسة وتنظيم شؤون الناس.
وإذا كان أمير المؤمنين يمثّل شجرة رسول الله (صلوات الله عليه وآله) ونفسه؛ فحرياً بنا أن نقف موقف مشرف قِبالَ ذلك الصرح العظيم لننالَ الشيء اليسير من معرفته، كون أننا نؤمن أن الانحراف في مسيرة الأمة الإسلامية والحيود والنكوص الذي شاب انتشار الإسلام كمشروع إلهي يضمن سعادة البشرية؛ هو بسبب تنحية أمير المؤمنين وأولاده المعصومين سلام الله عليهم من قبل الأمة !
مخالفين بذلك نص وصية النبي (صلوات الله عليه وآله): “إني مخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً”.
لقد كانت مقترحات الأصدقاء لا تخلوا من حافز ودافع للكتابة ولأكثر من مقال لتغطية مقترحاتهم، لكنّا ولضيق المقام سنقوم بذكر نزر يسير مختصر عن إضاءات من أقوال وقواعد فكرية للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) شكّلت قاعدة تشريعية وسياسية وأخلاقية لإدارة الدولة وكالآتي:
فأما مواصفات الحاكم وطريقة إدارته للرعية من منظور علي (عليه السلام)، فسوف نستعرض وثيقة واحدة من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يوصي بها لكونه الحاكم السياسي والمتصدي لإدارة شؤون الأمة، وهي تكفي لاستخراج منهج أخلاقي وإسلامي شامل في إدارة الدولة وفق رؤية إسلامية متكاملة فقد ورد في عهده إلى مالك الأشتر -: ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه؛ فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
ولا تنصبن نفسك لحرب الله؛ فإنه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته…
وأعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك؛ فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده. وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده))
وعن قانون الرقابة على الحاكم والسياسي من قبل الإمة وإرساء مبدأ الأمة الشاهدة على السلطة، فقد أوجزها سلام الله عليه بقوله: ((وروى بكر بن عيسى، قال: كان علي عليه السلام يقول: يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي، ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن. فكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع، وكان يطعم الناس منها الخبز واللحم، ويأكل هو الثريد بالزيت))، وروى هارون بن سعيد، قال: ((قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فوالله ما لي نفقة إلا أن أبيع دابتي، فقال: لا والله ما أجد لك شيئا إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك)).
ومن هنا نستدل على مقدار شفافية أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووضوح نقاء ذات اليد لديه وعدم استئثاره بأموال الناس والشواهد هنا كثيرة لا يسعها المكان.
وعن منظور علي تجاه المخالف
ورد عنه سلام الله عليه ((الناس صنفان أما أخٌ لك بالدين أو نظيرٌ لك في الخلق))، وهذه الوثيقة التاريخية تعتبر من أروع القواعد الإنسانية في التعايش السلمي والتآخي وعدم الانغلاق والتخندق النوعي.
وبخصوص مفهومه (عليه السلام) عن السياسة والدهاء الذي يمتاز به أهل زمانه وزماننا هذا وهو مربط الفرس وبيت القصيد فيقول: ((والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر. ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة. ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة.
والله ما أستغفل بالمكيدة، ولا أستغمز بالشديدة ))- ومن كلام له عليه السلام ((أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل أيها الناس إنما يجمع الناس الرضاء والسخط. وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: “فعقروها فأصبحوا نادمين” فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة)).
وهكذا لو أردنا أن نستمر في إيراد منهج علي (عليه السلام)! في إدارة شؤون الدولة وتسييس شؤون العباد وفق منظور ومنهج قرآني لما اكتفينا بعشرات المقالات لكننا نرتأي التوقف عند هذا القدر، ونترك التفصيل للقارئ اللبيب، ليعرف الفرق بين السياسة من منظور علوي والسياسة المعاصرة لأهل هذا الزمان حتى من قبل مدعي الانتماء لعلي (عليه السلام) ويقارن ويدرك حجم البون بين المسلكين بحيث ضاعت مصالح الناس وأصبح الخطر يتهدد دينهم ولا حول ولا قوة الا بالله والحمد لله رب العالمين.