في ظاهر الأمر قد يظن الناظر السطحي أن خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكة قبل إكمال مناسك الحج كان قرارًا اضطراريًا أو ربما قرارًا عجولًا لا يحتمل التأجيل.
لكن حين نتأمل بحسّ الإعلام الواعي نجد أن ذلك الخروج كان محطة إعلامية شديدة الذكاء أشبه بنقلة استراتيجية غيرت مسار الصراع كله.
كان الإمام قد نزل بمكة في شعبان سنة 60 للهجرة وأقام فيها أشهرًا طويلةً يلتقي الوفود القادمة للحج من مختلف أطراف العالم الإسلامي. ولعلنا لو تخيّلنا المشهد لرأينا ساحة المسجد الحرام تعجّ بالآلاف والناس يأتون فرادى وجماعات إلى بيت الله فإذا هم يجدون الحسين سبط رسول الله يجلس في حلقة علم أو يقف خطيبًا يذكّر الناس بالله ورسوله ويروي لهم أخبار الظلم الأموي ويكشف حقائق السلطة التي أرادت أن تفرض على الأمة يزيد بن معاوية.
كان الإمام يستثمر موسم الحج كما لو كان مؤتمرًا إعلاميًا عالميًا.
يقول بعض المؤرخين إن مئات الرسائل بعثها الإمام في تلك الفترة ودخل في عشرات اللقاءات الفردية والجماعية. كان يهيّئ الرأي العام لفكرة خروجه ويزيل عن ذهن الناس شبهة التمرّد الشخصي أو المغامرة السياسية.
لكن الطغيان لا يترك ثغرة إلا وسدّها بالخديعة والدم.
فلما علم يزيد أن وجود الحسين بين تلك الوفود يهدد مشروعه الإعلامي والسياسي أمر واليه على مكة بسرّية لاغتيال الإمام حتى لو كان متعلقًا بأستار الكعبة. وقد نقلت الروايات عن الإمام أنه قال: “والله لئن أقتل خارجًا منها بشبر أحبّ إلي من أن أقتل داخلها”.
هنا تتجلى بصيرة الحسين الإعلامية:
لو قُتل في مكة لقال بنو أمية إن رجلًا مجهولًا قد طعنه في الزحام أو سُقط عليه حجر أو مات في حادث ثم يدفنونه خفية وتنتهي القضية قبل أن يسمع بها أحد. حتى لو اعترفوا بقتله سيقولون إن دم الحسين هو ثمن حفاظه على شعائر الحج وسيروجون لفكرة أن خروجه كان جريمة تهدد أمن الحرم.
أما وقد خرج من مكة علنًا فقد أجهض خطتهم كلها:
أولا : أعلن أن حياته ليست أغلى من قدسية بيت الله.
ثانيًا : جعل خروجَه بيانًا عالميًا يرد على كل شبهة قد يلصقونها به.
ثالثًا : قدّم نموذجًا فريدًا: أن التزام الشرعية والوضوح في الإعلام أولى من بقاء الشكل الديني إذا كان سيُستعمل ساترًا للقتل والتضليل.
وتأمل عبارته الفريدة التي تكاد تكون نصًا إعلاميًا جاهزًا لكل العصور:
“إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى الله عليه وآله”.
بهذا الإعلان قطع الطريق على الإعلام الأموي الذي كان يتهيأ لشيطنة ثورته.
ثم واصل بيانه:
“أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب”.
هكذا قدم للناس ميثاق حركته محدد الأهداف والوسائل والمرجعية وصنع أول وثيقة إعلامية للثورة الحسينية.
ولأن موسم الحج كان يوشك على ذروته فقد خرج الإمام يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) أمام أعين الناس جميعًا.
تخيّل آلاف الحجاج ينظرون إليه وهو يهيئ رحاله وأطفاله ونسائه ويسير في الصحراء.
لقد كانت هذه صورةً أيقونية هزّت القلوب: سبط النبي يخرج من مكة مكرهًا لأن البيت لم يعد مأمنًا للحق.
إن هذا المشهد وحده خطاب صامت أبلغ من آلاف الخطب.
وهو ما يسميه اليوم علماء الإعلام “القوة الرمزية للصورة” أي أن الأثر الذي تتركه الصورة الحقيقية الصادقة يفوق كل بيانات السلطة المزوّرة.
ولعل أعداءه ظنوا أن خروجه سيُشعر الناس بالخوف لكن العكس هو الذي حصل: انتشر خبره في الجزيرة كلها وصار حديث الحجيج.
وكلما سأل الناس لماذا خرج؟
جاء الجواب من أفواه أصحابه: خرج لأن يزيد أراد اغتياله في بيت الله وخرج لأنه صاحب حق لا يبيع ضميره.
بهذا الفعل سجّل الإمام الحسين × سابقة عظيمة أن القائد الرسالي حين يقدّر أن بقاءه في مكان سيخدم الدعاية الباطلة أو يسهم في تشويه الحق ينبغي عليه أن يتحرك وأن يدفع ثمن وضوحه وشجاعته.
وفي ذلك نقرأ قوله تعالى:
“وَلا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة: 42)
وكأن الحسين جعل خروجه مثالًا عمليًا لهذه الآية المباركة.
ثم انطلق إلى كربلاء يحمل معه كل ما جمعه من الوعي والإعلام والمظلومية. لم تكن خروجه هروبًا من مكة بل كان اصطحابًا لقضية كاملة خرجت معه من مكة إلى التاريخ كله.
إن هذا الدرس البليغ يقول لنا:
إذا أردت أن تكون إعلاميًا رساليًا فلا تكن أسيرًا للشكل ولا خائفًا من الضجيج. ضع في حسابك أن الحق سيكلفك التضحية لكنك إذا خرجت وفي قلبك صدق الحسين فلن يستطيع خصمٌ أن يطفيء صوتك.