البث المباشر
  • الرئيسية
  • من فكر المرجع اليعقوبي
  • أهل البيت
  • المناسبات الإسلامية
  • الدين والحياة
  • البث المباشر

مرآة الغالب: انبهار ابن خلدون والوردي وغياب الذات الفاعلة

مرآة الغالب: انبهار ابن خلدون والوردي وغياب الذات الفاعلة

28 مايو 2025
41 منذ 3 أسابيع

بقلم: المحامي والكاتب نهاد الزركاني

 

في المسافة الفاصلة بين القرن الرابع عشر والقرن العشرين، يقف كل من ابن خلدون وعلي الوردي بوصفهما عَلَمين بارزين في محاولات فهم المجتمع العربي وتحليل أزماته، ورغم ما يفصل بين الرجلين من زمن وسياق معرفي، إلا أن تشابهاً عميقاً يربط بينهما في طبيعة التحليل، وفي حدود ما ذهب إليه كلٌ منهما من تشخيص لمعضلاتنا الحضارية، فكأنما اجتمع الاثنان على صيغة واحدة: وصف المأساة دون التورط في محاولة تجاوزها.

 

بين الانبهار والتبعية: المرجعية المُنتصرة دائماً

استقى ابن خلدون منظومته من منطق “العصبية والغلبة”، محاولاً تفسير نشوء الدولة واستمراريتها من خلال آليات اجتماعية داخلية، لا من بوابة المثال أو المدينة الفاضلة.

ورغم العمق التحليلي لمفهوم “العصبية”، إلا أنه تحوّل – في بعض القراءات – إلى أداة لتبرير استقرار الحكم الاستبدادي بدعوى الضرورة العمرانية، ويقول ابن خلدون في مقدمته: ((الملك بالجبر والقهْر لا يدوم، إلا أن يكون للغلبة والعصبية يد تعضده)) (ابن خلدون، المقدمة).

أما الوردي، فانطلق من انبهار ظاهر بالمناهج الغربية، لا سيما علم الاجتماع الأمريكي، وأسقط مفاهيمه على الواقع العراقي، دون أن يعيد إنتاجها ضمن بنية نقدية محلية قادرة على مساءلتها أو تهجينها.

وقد عبّر عن ذلك بوضوح حين كتب: ((العراق يعيش صراعاً بين بدوة أصيلة وتحضّر مستورد)) (علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي).

النتيجة في الحالتين كانت واحدة: الميل إلى مرجعية “الغالب”، سواء تجسّدت في الدولة القوية عند ابن خلدون، أو في النموذج الغربي عند الوردي، غابت الذات، وتحوّل العقل إلى مرآة تُعيد إنتاج الانبهار أكثر مما تعيد إنتاج الوعي.

البداوة كمتهم دائم: من التنميط إلى الاختزال

رأى ابن خلدون في البداوة أصلاً للسلطة، لكنها تبقى – في نظره – أدنى من مرتبة التحضر، يقول في المقدمة:
((البداوة أصل العمران، والتحضر غايته، ولا بقاء للأولى حين تستكمل الدولة أسباب التحضر)) (ابن خلدون، المقدمة).

وجاء الوردي ليُعيد إنتاج هذه الثنائية ضمن إطار “ازدواج الشخصية العراقية”، حيث اصطدمت قيم البداوة بقيم المدينة، من دون الغوص عميقاً في الأسباب البنيوية لهذا التداخل الحاد في بنية الإنسان العراقي: ((الشخصية العراقية مزيج من متناقضات لا تنسجم، وقد جاء بها التصادم بين قيم البداوة والحضارة)) (علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي).

في كلا السياقين، تحوّلت البداوة إلى “شماعة” تُعلّق عليها أزمات المجتمع، دون تفكيك عميق للشروط الاجتماعية والسياسية التي جعلت منها أرضاً خصبة للانقسام والعنف والعجز.

قراءة بلا جدل: سطحية التحليل التاريخي

اعتمد ابن خلدون على وصف حركة التاريخ بوصفها دورة متكررة، لا بوصفها صراعاً واعياً باتجاه التحرر: ((الدول لها أعمار كأعمار الأشخاص، ومصيرها إلى الفناء لا محالة)) (ابن خلدون، المقدمة).

أما الوردي، فاختزل الظواهر التاريخية ضمن إسقاطات نفسية واجتماعية، من دون تحليل طبقي أو تفاعل جدلي مع البنية العميقة للمجتمع العراقي.

غابت القراءة الجدلية، وحضر توصيف ساكن يرى التاريخ كمجموعة أنماط تتكرر، لا كحقل للصراع والتحوّل.

الدين بين القطع والانحياز

تميّز ابن خلدون أحياناً بانحياز مذهبي واضح، إذ مال إلى تأييد السلطة الدينية الرسمية، وقلّل من شأن التيارات الإسلامية المعارضة، ولا سيما الشيعية منها: ((وأما الشيعة فقد أفسدوا عقائد الناس وتناقلوا الأحاديث الموضوعة)) (ابن خلدون، المقدمة).

أما الوردي، فقد مارس نقداً لاذعاً للموروث الديني، لكنه لم يمنح هذا الموروث حقه في القراءة السياقية، ولم يتوقف عند المحاولات الإصلاحية داخله: ((الدين عند العامة غطاء للأنانية، يستخدمونه حين يشاؤون ويتركونه حين يضيق عليهم)) (علي الوردي، مهزلة العقل البشري).

وفي كلا الحالتين، لم يُقارب الدين بوصفه منظومة مركبة ومتفاعلة، بل تم التعامل معه كعائق جاهز يُستدعى لتفسير التخلف والانحطاط.

المفكر والسلطة: بين التبرير والصمت

من أوجه الشبه الصارخة بين الرجلين، غياب الموقف الرسالي الواضح من السلطة، خدم ابن خلدون السلاطين، وكتب عن “الرهبة” بوصفها ضرورة لحفظ الدولة: (الرهبة في النفوس سبب للطاعة والانقياد) (ابن خلدون، المقدمة).

بينما آثر الوردي الصمت حيال الاستبداد السياسي في عصره، وركّز نقده على المجتمع وحده، متجاهلاً أن بنية الدولة قد تكون الجذر الأعمق للأزمات التي وصفها.

فاصل منهجي: إنصافاً للسياق

لئن بدا هذا النقد حاداً، فإنّ من الضروري الإقرار بأن ابن خلدون والوردي لم يُنشِئَا نصوصهما في فراغ، لقد كتبا في سياقات معرفية وتاريخية لا تنتظر من المفكر أن يطرح مشروعاً تحويلياً، بل أن يقدّم أدوات لفهم الواقع.

لذا، فإن المحاكمة من موقعنا المعاصر يجب أن تُراعي حدود الدور المعرفي الممكن في زمنهما، دون أن تُغفل إمكانيات التراكم وتجاوز تلك الحدود في الحاضر.

السؤال الغائب: ما العمل؟

لا نجد لدى ابن خلدون أو الوردي مشروعاً واضحاً لتجاوز الواقع أو تغييره، الأول صاغ قوانين التاريخ بوصفها قدراً لا يُردّ، والثاني اكتفى بتشخيص ازدواج الشخصية العراقية دون تقديم أدوات لتجاوز هذا الازدواج القاتل.

لقد أدركا العِلّة، لكنهما لم يحفّزا الفعل، ولم يطرَحا أسئلة المشروع أو البديل، وكأنّ اليأس هو المآل النهائي لعقل مأزوم.

خلاصة: عقل يهاب الحُلم

لقد مثّل كلا المفكرَين عقلاً يحب التحليل، لكنه لا يجيد الاجتراح، عقلٌ يُجيد القراءة، لكنه يُخفق في الكتابة على جدار التاريخ الجديد، عقلٌ يتأمل، لكنه لا يجرؤ على الحُلم؛ يُشخّص، لكنه لا يُعالِج؛ ينقد المجتمع، لكنه يُهادن السلطة أو يصمت في حضرتها.

وفي زمننا الراهن، لم يعد يكفي أن نصف الواقع، التحدي الحقيقي هو أن نمتلك شجاعة المواجهة، وجرأة اقتراح البديل، وهي المهمة التي ينبغي أن يتصدى لها الجيل الجديد من المفكرين، لا بوصفهم مجرّد نقّاد، بل بوصفهم حَمَلة مشروع ومسؤولية وتاريخ جديد.

إلى القارئ… أنت الحلقة المفقودة

إن قراءة الواقع وتحليل تاريخه لا تكتمل ما لم تتحوّل إلى سؤال شخصي: ماذا أفعل أنا؟ كيف أكون مختلفاً؟ كيف أتحرر من إرث الجمود والخوف والحياد؟

لا تنتظر من المفكرين أن يصوغوا لك المعنى النهائي، ولا تُسلّم بأن التاريخ يُكتب دون إرادتك.

كن شريكاً في صناعة الوعي، لا مستهلكاً له.

اقرأ لتثور، لا لتستسلم. ناقش لتبني، لا لتُجادل.

في عالمٍ يتهاوى فيه الحق تحت وطأة الجهل والتبرير، يكون الوعي هو أول خطوة نحو الحرية.

وأنت، يا من تقرأ، قد تكون بداية الجواب.

 

 

مشاركة المقال:

مقالات مشابهة

سماحة الشيخ اليعقوبي مصداق المرجع الذي لا تهجم عليه اللوابس …. الحلقة ( ٤١)

خطة مقترحة للقضاء على مرجعية اليعقوبي

دروس حوزوية ودينية في سجون الطغاة.. الحلقة العاشرة  

الجدول

  • على الهواء
  • التالى
  • بعد

لا توجد برامج متاحة في هذا التوقيت

لا توجد برامج متاحة في هذا التوقيت

لا توجد برامج متاحة في هذا التوقيت

مناسبات شهر رمضان

وفاة الصديقة خديجة الكبرى عليها السلام

10

ولادة سبط النبي الاكرم (ص) الامام الحسن بن علي بن ابي طالب عليهما السلام

15

شهادة مولى المتقين الامام علي عليه السلام

21

ليلة القدر

23

تابعنا

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لقناة النعيم الفضائية