في تاريخ الأمة الإسلامية لا شك أن المواقف التاريخية التي تتسم بالحكمة والمثابرة في مواجهة التحديات السياسية كانت حاسمة في تشكيل مجرى الأحداث، ومن أبرز الشخصيات التي تركت بصماتها الواضحة في هذا السياق هو السيد محمد الصدر (قدس سره)، الذي واجه تحديات السلطة البعثية في العراق ببصيرة نافذة ورؤية استراتيجية، محاولاً توظيف اللحظات التاريخية لصالح مشروعه الإصلاحي والاجتماعي.
لكن في قراءة أعمق لتعامل السيد الصدر مع النظام البعثي، يظهر أن تفاعله مع السلطة لم يكن مجرد موقف شخصي بل كان جزءاً من استراتيجية أوسع يشارك فيها عدد من العلماء الأجلاء، من بينهم سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته) وسماحة الشيخ حسن الصفار (دامت بركاته)، اللذان قدما رؤى هامة حول هذا التعامل.
رؤية الشيخ محمد اليعقوبي في العلاقة بين السيد الصدر والنظام البعثي
يرى سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) أن السيد الصدر الثاني (قدس سره) قد نجح في استثمار التغيرات السياسية التي تلت الانتفاضة الشعبانية المباركة في العراق.
فقد كانت السلطة البعثية في هذا الوقت تشعر بخطورة الوضع الداخلي، بسبب تنامي الحركة الإسلامية في العراق وتوسع تأثيرها الشعبي، وهذا جعل النظام في حاجة إلى الحوار مع المرجعية في النجف الأشرف، لتجنب خطر الانفجار الشعبي الذي كان يهدد وجوده بشكل جدي.
وفي هذا السياق يبين الشيخ اليعقوبي، أن السيد الصدر استطاع استثمار هذه الحاجة من قبل النظام بحيث كان يتعامل مع السلطة بذكاء ووعي، فقد كان السيد الصدر يرى أن السلطة كانت بمثابة “إشارات المرور”، حيث يسير حتى يصل إلى نقطة معينة فيتوقف ثم يتقدم إذا سمحت الظروف.
هذا التكتيك الذكي جعل من حركة السيد الصدر أكثر تأثيراً دون الاصطدام المباشر مع السلطة، بل متجاوزاً بذلك الاستراتيجية المتعارف عليها من الانسحاب أو المواجهة المتكافئة التي قد تؤدي إلى إزهاق الأرواح وإضاعة المصالح.
تفسير الشيخ حسن الصفار لمواقف السيد الصدر في ظل السلطة البعثية
أما سماحة الشيخ حسن الصفار (دام ظله) فيطرح قراءة تحليلية للموقف التاريخي للسيد الصدر الثاني، في إطار الوضع السياسي للعراق بعد حرب الكويت.
فقد كان النظام البعثي بعد هزيمته في الكويت يعاني من ضعف داخلي، وكان الحصار الدولي يضيق الخناق على الشعب العراقي، في هذا الوضع عمد النظام إلى التظاهر بالاهتمام بالدين كوسيلة للتهدئة السياسية، ورفع شعار الدين في وجه أمريكا وحلفائها.
لكن السيد محمد الصدر، الذي كان يدرك حجم الضعف الذي يعانيه النظام رأى في هذه اللحظة التاريخية فرصة سانحة لاستعادة دور المرجعية الدينية في العراق.
وفي هذا السياق يذكر الشيخ الصفار أن السيد الصدر تمكن من تحييد النظام ليس عن طريق المواجهة العنيفة، بل من خلال إظهار الموقف الذي يطمئن النظام ويمنحه شعوراً بالأمان من دون المساس بالثوابت الدينية والمبادئ الوطنية والقواعد الأخلاقية، وهو ما مكنه من إعادة تأكيد مكانة المرجعية في المجتمع.
وبينما كان النظام يراهن على استخدام السيد الصدر لصالحه، كان الأخير يراهن على هذا الظرف التاريخي ليحقق أهدافه الدينية والاجتماعية دون أن يثير الشكوك أو الهجوم عليه من قبل النظام رغم ما تعرض له من اتهامات!
التفاعل بين الرؤيتين وتحليل دقيق للأبعاد السياسية والدينية
من خلال قراءتي الشيخين اليعقوبي والصفار للمواقف السياسية التي واجهها السيد محمد الصدر في تعاملاته مع النظام البعثي، يتبين أن السيد الصدر كان يشق طريقه بحذر وحكمة في مرحلة دقيقة من تاريخ العراق، فقد كانت رؤيته تستند إلى فهم عميق للواقع السياسي المعقد ووعي تام بما يمكن أن تترتب عليه كل خطوة من خطواته.
الشيخ اليعقوبي يبرز الجانب التكتيكي في العلاقة بين السيد الصدر والنظام، موضحاً كيف أن الاستفادة من مواقف السلطة كانت تتيح للسيد الصدر أن يحقق إنجازات كبيرة على المستوى الاجتماعي والديني، من خلال إقامة صلاة الجمعة وفتح أبواب النشاطات الإسلامية التي كانت محظورة سابقاً.
أما الشيخ الصفار فيرى أن السيد الصدر كان يسعى إلى إعادة التوازن الديني في المجتمع العراقي، واستعادة دور المرجعية التي كانت قد تعرضت للضغوط والتهديدات من قبل النظام، مشيراً إلى أن هذا الموقف لم يكن سهلاً على السيد الصدر بل كان يتطلب منه التضحية بسمعته في بعض الأحيان، من أجل تحقيق أهدافه الكبرى.
أحبتي الكرام
من خلال عرض آراء الشيخين اليعقوبي والصفار يمكننا أن نرى أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)، كان رجلاً ذو بصيرة سياسية ودينية استخدم أعمق الأساليب لتوجيه الأمة نحو تحقيق أهدافها مستغلاً الظرف التاريخي الذي كان يعاني فيه النظام البعثي من انكسار داخلي.
كانت مواقفه مثالاً في الحكمة والتكتيك وبرزت بوضوح في تأكيد ضرورة الحفاظ على دور المرجعية الدينية، بل والعمل على استعادتها في أوساط المجتمع.
إن هذه الرؤية التي أشار إليها كل من الشيخ اليعقوبي والشيخ الصفار، تظهر لنا كيف أن السيد الصدر كان في الوقت نفسه رجل دين متفرد وسياسي حكيم، لم يترك فرصة إلا واستفاد منها لصالح دينه وأمته.
الشيخ علي الزيدي
3 ذي القعدة 1446 هـ