تعتبر نهضة السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره نهضة إصلاحية دينية اجتماعية عظيمة، حيث استطاع قدس سره في زمن قياسي أن يعيد الكثير من الأمور إلى وضعها الصحيح بعدما كانت مقلوبة، ويسير بالمجتمع بشكل كبير نحو عبادة الله تعالى وترك المحرمات.
كما استطاع في مدة قياسية أيضا أن يرفع وعي الأمة ويرسخ مبادئ مذهب أهل البيت عليهم فرديا واجتماعيا.
غير أن الملاحظ بعد استشهاد الصدر الثاني ظهور بعض الحركات والتصرفات المنحرفة من قبل أشخاص محسوبين على خطه ومدرسته، وقد تنوعت هذه الإنحرافات بتنوع مجالاتها:
فمنها الانحرافات العرفانية، وهي جماعة تسمى (السلوكية) ظهرت في زمن السيد الشهيد واستمرت بعده، وهي تحمل افكارا عرفانية منحرفة، وقد أعلن قدس سره البراءة منهم في حياته.
ومنها الانحرافات المهدوية، حيث ادعى بعض الأشخاص النيابة عن الإمام الحجة عج (كاليماني وابن الحسن وغيرهم).
والانحرافات السياسية الفكرية، وتتمثل في التصدي لقيادة الأمة من دون توفر مؤهلات القيادة وعلى رأسها الاجتهاد، حيث يحرم على من لم يكن مجتهداً التصدي للقيادة، إلا أن يكون تحت إشراف وقيادة مرجع جامع للشرائط.
ومنها ادعاء مقام المرجعية الدينية من دون مؤهلات علمية واخلاقية (الصرخي وأتباعه)، وهكذا تعددت الشخصيات والجماعات المنحرفة في المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية.
ولكل واحد من هذه الخطوط المنحرفة أتباع ومريدون ومروجون، وقد تسببوا في كثير من تشويهات السلوك الديني الاجتماعي خلال العشرين سنة الأخيرة التي اعقبت سقوط الحكم الصدامي.
فهل يتحمل السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره مسؤولية هذه الانحرافات؟ بمعنى أنه هو الذي أسس لها من خلال الأفكار الخاطئة التي طرحها وثبتها عند أتباعه؟
الجواب
أولا نجيب بجواب (نقضي) كما يسمونه، وهو أن الإنحراف بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أكبر بكثير من هذه الانحرافات، حتى محق وانقلب الكثير من تعاليم الإسلام، وسالت دماء الملايين من المسلمين، وتقطعت الأمة الإسلامية أوصالا، وتسلط عليها الطغاة والظلمة والفاسدون، فهل يتحمل رسول الله ص مسؤولية ذلك ؟!!
ثانيا
إن هذه الظاهرة تعتبر من الارتدادات الطبيعية للحركات الإصلاحية الجماهيرية، عندما تحدث إصلاحات جذرية في المجتمع، فتنقله من حال إلى حال آخر ومن نظام إلى نظام ومن سلوك إلى سلوك مختلف، فإن هذا التغيير الدفعي يؤدي إلى دخول الجماهير في المشروع الجديد من دون أن تستوعبه بشكل كامل، ومن هنا فإن الواجب على القائد المصلح أن يمارس دور التعليم والتربية والترويض للأمة بعد دخولها المشروع الجديد، للحفاظ عليها من الإفراط والتفريط المؤديان إلى الإنحراف عن جادة الصواب، وإذا كان دور التربية والترويض طويلا وجب على المصلح أن يربي خليفة له، يقوم بهذه المهمة بعده، فيحافظ على الأمة من الإنحراف والضياع وتكالب أعداء الداخل والخارج، وهذا ما فعله جميع الأنبياء، بما فيهم النبي الخاتم صلوات الله عليهم أجمعين، حيث عين كل منهم الوصي الكفء على المشروع والأمة من بعده،
فإن اتبعت الأمة الوصي الذي نصبه قائد المشروع، نجت وحافظت على وحدتها واستقامتها، وإن خالفته واتبعت غيره، تمزقت شر ممزق وهجم عليها الأعداء، ونخرتها الإنحرافات.
وقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره ملتفتا لهذا الأمر، حيث خطط بشكل واضح لذلك، فقد صرح أنه ينوي تربية خليفته على المشروع وأنه من طلابه، وقال (ربما سيكون أفضل مني)
ووجه أحيانا بضرورة بقاء القيادة تحت أمر المجتهد، ولا يجوز الرجوع لغير المجتهد، كما أشار في عدة مناسبات إلى بعض العلماء الذين يمكن الرجوع إليهم بعده، إلى أن صرّح بشكل لا يقبل الشك بسم خليفته على المدرسة الصدرية والمشروع الصدري، وهو سماحة الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله، وذلك في لقاء جامعة الصدر الدينية المعروف (بغدير الصدر) في الخامس من جمادى الآخرة عام ١٤١٩ هجرية، الموثق بصوته الشريف والذي يقول قدس سره فيه أن المرشح الوحيد من حوزتنا هو الشيخ محمد اليعقوبي، وهو الذي ينبغي أن يمسك الحوزة من بعدي (ويقصد الحوزة الصدرية).
ولكن هذه الوصية تعرضت للتعتيم والتأويل والانكار
كما تعرض الشيخ اليعقوبي دام ظله لهجمة تسقيطية شرسة خارجية وداخلية بسبب هذه الوصية، من قبل زعامات دينية وجهات سياسية، خوف استلامه لقيادة الحركة الإسلامية في العراق.
ثالثا
إن التدخلات الخارجية لها الدور الكبير في تمزيق المشروع الصدري، حيث قامت بعض الدول بدعم بعض أتباع السيد الشهيد غير المؤهلين للقيادة الدينية، وقسمتهم عدة أقسام، ومكنتهم من جمع الأتباع لغرض الإستفادة منهم في دعم مشاريعها، من دون الإهتمام لما يخلفه هذا الدعم من انحرافات عقائدية ومشاكل إجتماعية، وخسائر بشرية ومادية.
وقد كانت الحركة الصرخية إحدى هذه المشاريع الخارجية، إذ من الواضح منذ البداية أن هذه الحركة تمثل استنساخا للتجربة الوهابية، التي قامت المخابرات البريطانية من خلالها بدعم وصناعة محمد بن عبد الوهاب عندما وجدت فيه طموح الزعامة من دون مؤهلات،
وهكذا كان الصرخي، الذي سعى ولازال يسعى لمنصب الزعامة مهما كان الثمن، ومهما كانت الطريقة، فتارة يتهجم على العلماء، وتارة يلعب الكرة، وتارة يدافع عن عائشة، وأخيرا يدعو إلى هدم قبور الأئمة عليهم السلام.
رابعا
إذا رجعنا إلى خطابات وخطوات السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره فإننا لن نجد إلا التأصيلات الدينية المنضبطة، والمشروع الإصلاحي الناصع، وفق أساسيات مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام،
فقد كان قدس سره دقيقا في هذا المجال، بل إن من أهم ركائز مشروعه التي ربى عليها أتباعه هو الرجوع إلى المرجعية الدينية في كل شيء : (لا تقولوا قولا ولا تفعلوا فعلا إلا بالرجوع إلى الحوزة العلمية الشريفة)
وكذلك الطاعة المطلقة للمرجعية 🙁 إذا قالت المرجعية فنفذ ولا تناقش).
أما الانتقادات التي وجهها لبعض المرجعيات في حينها فقد أراد منها كسر القداسة الزائدة المفروضة على الفرد والمجتمع، والتي تمنع التفكير والتقييم الموضوعي، ثم بعد ذلك يكون الفرد حرا في إختيار قيادته،
ولم يكن الهدف من هذا الانتقاد هو توهين عنوان المرجعية الدينية.
ومن هنا فإن السيد الشهيد الصدر الثاني قدس سره بريء من كل انحراف يحصل بعده، وأن ما يحصل من فتن وانحرافات، إنما هي صراعات دنيوية على الزعامة والمغانم والمكاسب، يهلك فيها من هلك، وينجو فيها من تمسك بحبل الله تعالى وحبل رسوله وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، وحبل المرجعية الدينية الرشيدة.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
الشيخ كامل الباهلي