لم تكن وصايا الإمام علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) عاطفية وعفوية في بناء أسس الدولة المتحضرة الهادفة إلى تربية الأجيال والسير بهم نحو عالم التحضر والتطور وفق المنهج القرآني الرصين العامل على بناء الإنسان والمحافظة على إنسانيته وكرامته والتكفل برزقه رحمةً من خالقه.
يقول تعالى في محكم كتابه العزيز : (( ولقد كرًّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضًّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً ))
وعلى النهج القرآني المبارك أوصى الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله وسلم) بأهمية إظهار الإسلام وحقيقته العاملة على مراعاة الفقراء والمحتاجين وبذل الجهود في بناء القوانين العاملة على الحفاظ على تلك الشرائح المعدمة باعتبار الإنسانية واحدة لا تفرقها الأجساد المختلفة والعمل على تقديم احتياجاتها والمحافظة على كرامتها الإنسانية وإبعادهم عن الانتقاص من الآخرين والحاجة إلى الآخرين مما يجعلهم طبقه منزوعة الكرامة ، ويقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الصدد « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى لهُ سائر الجسد بالسهر والحمى ] .
بناء على القرآن والسنة الشريفة الأصيلة التي تغذى منها أمير المؤمنين ونشأ في حجرها المبارك كان اهتمامه بالمجتمع وأحواله وضرورة توحيد الجهود وتسخيرها لخدمة المحتاجين والفقراء من أبناء الأمة الإنسانية جمعاء والعمل على وضع القرارات القادرة إلى حل مشاكلهم والاهتمام بهم ويكون بذلك تطبيقاً للكتاب المقدس وتعاليم الرسالة الإسلامية السمحاء وهو أمر ينعكس على الجوانب الروحية للفقراء وصيانة مشاعرهم الإنسانية ويكون بمثابة عودة الامة إلى قيمها وأخلاقها وعطائها الروحي والأخلاقي التي أرادها الإسلام للبشرية جمعاء بدون تمييز ديني أو مذهبي وبالاعتماد على الرحمة والاخلاق ويكون ذلك بمثابة الحصن الواقي للمحتاجين والبؤساء للتصدي إلى جميع الافكار الدخيلة التي تحاول الانتشار في أفكار البسطاء والمحتاجين ونشر أفكارها الضالة وتهديد المجتمعات البشرية بالاندثار والمخاطر ، وقول الإمام أمير المؤمنين(ع) بهذا الصدد ما نصه «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم ، فأنهم صنفان : إما اخ لك في الدين ، او نظير لك في الخلق…»
وأوجد من خلال حديثه المقدس سياسة فكرية اجتماعية ثابتة تعتمد الوحدة الإنسانية ومن ثم الوحدة الدينية القائمة على أساس الحوار والرحمة بين المجتمعات الإنسانية دون استثناء ويعكس بذلك عمق الرسالة المحمدية وتعاليمها الرصينة الداعية إلى الوحدة المجتمعية والابتعاد عن الفرقة على أساس الأديان ويعكس قوله تعالى في كتابه المقدس « لا إكراه في الدين…» ، وقد كان فكر الإمام أمير المؤمنين(عليه الصلاة والسلام) أثره في أقلام المفكرين من الأديان الأخرى الإسلامية والأجنبية على حدٍ واحد معربين عن العظمة والقدرة الإنسانية التي تميزت بها شخصيته الشريفة.
وأوجدت سياسة «المساواة» في فكر الإمام أمير المؤمنين(عليه الصلاة والسلام) بين الشرائح المجتمعية المختلفة أرضية سليمة لبناء الفكر الاجتماعي العادل بين الأمم المختلفة والتي وجدت فيها الدستور الاجتماعي الرصين في تحقيق العدالة القادرة على التطور والتحضر ومن خلاله يمكن بلوغ النجاح وتحقيق الصواب للمجتمعات الإنسانية بتحقيق مبدأ المساواة بين أبناء المجتمعات المتنوعة دون تمييز بين الذكر والأنثى ويمكن أن تكون الأخلاق الفاضلة والتربية الصحيحة هي المعيار في التعامل بين الجميع.
إذ كان القرآن الكريم أشار إلى تلك المساواة وعدم التمييز بين الناس ، وقال تعالى « يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ]
ومن القرآن ونهجه أوجد سيدنا ومولانا أبو الحسن نهج المساواة الذي ظل يحاكي الأجيال المختلفة والأقلام المنصفة طوال التاريخ وهنا لابد من ذكر كتاب الأديب المسيحي الرصين الذي حمل عنوان العدالة جورج جرداق « الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ] الذي أبرز نماذج حية لتلك المساواة وتحقيق العدالة بين المجتمع وفئاته المتنوعة ونبذ التفريق والقرابة الأسرية التي تأخذ على عاتقها تمزيق الأمم وتدميرها وخلق الطبقية المميتة المتمثلة في الجوانب العنصرية والمالية ويخاطب الإمام أصحابه بضرورة المساواة والعدالة في الأمور المختلفة ومنها عملية الانفاق المالي في جميع الظروف الحرجة والطبيعية لتحقيق المساواة ويقول عليه السلام ما نصه [ أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور ؟ لو كان المالُ لي لسويت بينهم ، فكيف وإنما المال مال الله ….».
وفي جانب البناء الاجتماعي العامل على بناء قاعدة جماهيرية مؤهلة ثقافياً قادرة على الثبات بوجه المخالفين للدين وتعاليمه القويمة الرصينة التي أوجدها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أكد في احاديثه المباركة على أهمية الالتزام في الحضور الفاعل في المجالس الدينية ومجالس العلم وأهله للنهل منها وترصيناً للنفس والاخلاق بالاعتماد على افكار اصحاب اهل السوابق الحسنة ومناقشة العلماء والمفكرين والعمل على مرافقة اهل النجدة والشجاعة الى جانب المطالعة لتاريخ الامم السابقة للأخذ منا العبر والحكم ومعرفة أفكارهم وخاصة التي بلغت في تاريخها التطور والتحضر ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الجانب : « وأكثر مدارسة العلماء ، ومناقشة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما أقول ما ستقام به الناس قبلك « ويؤكد عليه الصلاة والسلام في جانبا آخر على تلك الأهمية والضرورة ] ثم الصق بذوي المروءات والإحسان ، أهل البيوتات الصالحة ، والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف …»
نماذج من تلك المواقف المشرفة في بناء الإنسان والتي يشهد لها الجميع ولعل كل منصف وكاتب وقارئ معتدل يجد من الواضح للعيان الفسحة الكبيرة والمهمة التي أفردها الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لتربية المجتمع الإنساني عامة وخاصة الضمير البشري على أساس الأخوة الإنسانية تاركاً العقائد والأديان كحرية متبعة من قبل الغير، إذ وضح أساساتها وصانها من الافتراءات التي دخلت على الدين الإسلامي وبين مخاطرها ، وما يعيش المجتمع الإنساني في أيامنا هذه من أزمات وشقاقات واختلافات وضعية من قبل المندسين والمتآمرين على البشرية والأمم جمعاء لتحقيق مصالح ذاتية ضيقة يدفع ثمنها المجتمع الإنساني في كل مكان وما أحوج تلك المجتمعات إلى إعادة منصفة ودقيقة الى طروحات الامام امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام للوصول الى مجتمعات آمنة ومتحضرة أساسها المساواة والمحبة والعدل والإخاء وصولاً إلى الطهارة النفسية وبناء مجتمع يتسم بالسلوكية المستقيمة وبلوغه أعلى المراحل الأخلاقية والحضارية ويتم من خلال ذلك التصدي المباشر والميداني إلى أصحاب الفتن والنفاق المحسوبين على الأديان والمذاهب ظلماً وعدواناً.
د. علي عبد المطلب المدني