تُلامسنا الكلمات أحياناً بعمق، تُوقظ فينا أسئلة عن جوهر العلاقات الإنسانية، “من لم يطرق بابنا والرّوح ترتجف، لا مرحبا به والنّبض منتظم”، جملةٌ قاسيةٌ، لكنّها تحمل في طيّاتها وجعاً إنسانياً عميقاً، إنها صرخةٌ لمن يتوق للرفقة في ليالي الخوف، ولمن يرجو السند حين تهتزّ أركان الفؤاد، إنها تتحدث عن قيمة الحضور في أوقات الشدة، وكأنّ الغياب حينها يترك ندبة لا تُمحى.
لكنّنا ما نلبث أن نرتفع بأبصارنا نحو قممٍ أسمى، حيث تتجلّى أخلاقٌ تُلامس عظمة الروح، من محراب الدعاء، يفيض إمامنا زين العابدين (عليه السلام) بكلماتٍ تُشكل خارطة طريق للتعامل مع النفوس البشرية، لا بردّ السيئة بالسيئة، بل بسموٍّ لا يُضاهى:
“وسدّدْني لأن أُعارض من غشَّني بالنُّصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأُثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصِّلة وأخالف من اغتابني إلى حسن الذِّكر”.
هنا يكمن الفرق الجوهري، فبينما يُطالب الصوت الأول بحقّه في الاعتراف بالألم وتلبية نداء الحاجة، يُقدم الإمام منهجاً يُحرّر الروح من قيود ردّ الفعل، إنه دعوةٌ للخروج من دائرة الانتقام المتجذّرة في طبيعة البشر، والتحلي بصفات تُشبه صفات الخالق في رحمته وعفوه.
تخيّل لو أنّنا طبقنا هذه الكلمات في حياتنا، لو أنّنا واجهنا الغش بالنصح الهادئ بدلاً من الغضب الصارخ، لو أنّنا بسطنا أيادينا بالبرّ لمن يهجرنا، بدلاً من إغلاق أبواب قلوبنا، لو أنّنا آثرنا العطاء لمن يحرمنا، بدلاً من الشعور بالمرارة، لو أنّنا سعينا للوصل بمن قطعنا، بدلاً من تثبيت الجدران، ولو أنّنا رددنا على الغيبة بالذكر الحسن، بدلاً من الانجرار إلى وحل الخصام.
إنها ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي دستور حياة يُعلّمنا أن القوة الحقيقية تكمن في التحكّم بالذات، وفي السمو على الجراح، إنها دعوةٌ لنا جميعاً، في العراق وفي كل مكان، لننشر أخلاق أهل البيت؛ أخلاق العفو، والوصل، والإحسان، لتصبح قلوبنا مناراتٍ تُضيء دروب المحبة والتسامح، فنُحيي بها الأرواح، ونُزهر بها الحياة.
ريحانة