بقلم: نهاد الزركاني
مقدمة: حين لا يكون التاريخ طقساً بل مشروعاً مؤجلاً
في الثامن عشر من ذي الحجة، على صعيد غدير خم، توقف الزمن لحظة……
ألقى النبي محمد (صل الله عليه وآله) خطبة لم تكن عابرة ولا ظرفية، بل أقرب إلى إعلان عن نموذج قيادةٍ قائمٍ على المعرفة والعدالة والمسؤولية الأخلاقية، لا على النسب أو القوة أو التوازنات السياسية.
لكن السؤال الأهم لم يكن في الإعلان ذاته، بل في الكيفية التي استقبلت بها الأمة ذلك الإعلان.
قلّ أن شهد التاريخ الإسلامي لحظةً بوضوح لحظة الغدير، ومع ذلك، بقيت تلك اللحظة معلّقة، مؤجلة، كأنها نبوءة غاصت في رمال الزمن…..
ما قبل “من كنت مولاه”: تمهيدات الغدير
لم يكن الغدير حادثة معزولة، بل كان تتويجاً لمسار نبوي لإبراز موقع الإمام علي (ع)، لا بصفته القريب، بل الممثل للمعرفة والعدل.
في بدر، كان السيف الذي حسم المعركة.
في أُحد، ثبت حين تراجع الآخرون.
وفي خيبر، قال عنه النبي:
((لأعطينّ الراية غداً لرجلٍ يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله…))
وفي تبوك، قال له:
((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟))
كانت هذه المشاهد تمهيداً واضحاً لرسالة أعمق: أن القيادة لا تُمنح على أساس القرابة أو الغلبة، بل تُمنح لمن يملك البصيرة والشجاعة الأخلاقية والعدل.
مشهد الغدير: تعيين مؤجّل
حين أعلن النبي (صل الله عليه وآله وسلم): ((من كنت مولاه، فهذا علي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه…))
لم يكن يطلب بيعة شكلية، بل كان يضع مقياساً للحق والعدل، ويفتح باباً لرؤية مغايرة لمفهوم القيادة.
تروي المصادر أن الإمام علي (ع) طلب لاحقاً من أربعين رجلاً الشهادة بما سمعوه في الغدير لتوثيق الحدث، رغم أن عدد الحاضرين كان بالآلاف، فلم يُستجب له.
السقوط لم يكن في إعلان الغدير، بل في عدم الجدية في تفعيل مضمونه من قِبل المجتمع.
(الاحتفال) كجسر للذاكرة لا كبديل عن الوعي
ليس الإشكال في الاحتفال؛ فالاحتفاء ضرورة ثقافية وروحية، الطقوس بأهازيجها وأعلامها ومجالسها ليست مظاهر فارغة، بل جسور رمزية نحو الذاكرة والهوية….
الغدير من القلائل التي ما زالت حاضرة في وجدان الناس، وسط زحام النسيان.حين تُؤدّى بصدق، يمكن للطقوس أن تكون وسيلة لإعادة الارتباط بالمعنى.
الشعر، والمسرح، والخطابة، ليست بديلاً عن الوعي، بل أدوات له.
لكن الخطر يكمن حين تتحول الطقوس إلى غاية بذاتها:
راية لا تُوقظ الوعي، ستُطوى سريعاً. وشعر لا يحفّز الضمير، سيتحوّل إلى مجرد نغمة.
السؤال إذاً ليس: هل نحتفل؟
بل: كيف نحوّل الاحتفال إلى وعي؟؟؟كيف نجعل من الغدير مساراً، لا مجرد ذكرى؟ من المناسبة مشروعاً، لا لحظة عابرة؟
ومن الشعر موقفاً، لا وزناً وقافية؟
نحو ثقافة واعية للغدير
إذا أردنا للغدير أن يكون أكثر من موسمٍ سنوي، فعلينا أن نبني ثقافةً واعيةً للاحتفاء، تزاوج بين الفرح والمسؤولية، وبين الطقس والفكر، وبين الموروث والتجديد.
فالغدير، في جوهره، ليس مناسبة مذهبية فقط، بل بوصلة أخلاقية تقول إن القيادة يجب أن تستند إلى العلم والعدالة والاستقامة، لا إلى القوة أو الوراثة أو الشعارات.
الغدير كرؤية إنسانية كونية
العالم اليوم بحاجة إلى الغدير، لا كذكرى دينية فقط، بل كرؤية إنسانية شاملة في فهم السلطة والعدالة.
الإمام علي (ع) لم يكن ثائراً وحسب، بل قائداً أخلاقياً رأى في السلطة تكليفاً لا تشريفاً.
حين قال: ((لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر… لألقيت حبلها على غاربها))
كان يعبّر عن رفضه لفكرة السلطة كحق شخصي، بل قبلها كمسؤولية أخلاقية في ظرفٍ يفرض التدخل.
وهكذا، يمكن للغدير أن يكون نموذجاً إنسانياً عالمياً:
في إفريقيا، حيث تُنهب الثروات،
وفي آسيا، حيث تُقمع الحريات،
وفي الغرب، حيث تنزلق الديمقراطية أحياناً إلى شكليات بلا جوهر،
الغدير يخاطب كل من يسعى إلى العدل بمعناه الأصيل.
خاتمة: الغدير ليس ذكرى… بل بداية
إذا لم نُعد بناء وعينا الجماعي على أسس الغدير، سنظل نكرر المأساة الأولى:
نؤمن بالحق، ولكننا لا نُفعّله.
الغدير ليس مجرّد تقليد ديني، ولا مناسبة عابرة.
إنه نداء للضمير الإنساني لإعادة تعريف القيادة:
لا باعتبارها “حقاً إلهياً مزعوماً”، ولا موروثاً سلطوياً، بل أمانة أخلاقية ودينية
هل نمتلك الشجاعة لنُخبر العالم أن في تراثنا يوماً اسمه الغدير،
حيث كانت القيادة مرادفاً للعدالة، لا للغلبة؟
(المرجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص190)