بسم الله الرحمن الرحيم
الخبروية العالية في بحوث الشيخ الأستاذ في الفقه والأصول(1)
ذكرنا في الحلقة السابقة أننا نفهم معنى واسعا للأعلمية، وهو يتضمن جملة من الشرائط، كان على رأسها الاجتهاد، ونبهنا على أننا فرغنا من حصوله لدى شيخنا الأستاذ المبجَّل. لذا سنتحدث في هذه الحلقة عن الشرط الآخر من شرائط الأعلمية، وهو ما اصطلحنا عليه بالخبروية العلمية العالية، والممارسة الدقيقة في عملية الاستنباط الفقهي.
تتجلّى الخبروية العالية والملكة الاجتهادية الدقيقة، في بحوث الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) من خلال مجموعة من المؤشرات العلمية الواضحة، نتكلم في هذه الحلقة عن واحد منها، وهو: “الاستمرار في البحث والتحقيق في درس الخارج”.
فقد استمرّ الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في البحث الخارج في الفقه لما يقارب عشرين عاما، حيث بدأ بإلقاء محاضراته في شهر شعبان سنة 1427هـ (2006م)، وقد حرّر إلى يومنا هذا أكثر من ستين مسألة ذات أهمية علمية وعملية بالغة.
وقد جُمعت هذه البحوث في موسوعة «فقه الخلاف» التي صدرت في أربعة عشر مجلدا، كما جُمعت المسائل المستحدثة منها في أربعة مجلدات مستقلة، ثم شرع (دامت بركاته) منذ شهر ربيع سنة 1445هـ في بحث كتاب الإرث، وهو مستمر في المسألة حتى يومنا هذا ونحن في عام 1447 هـ.
أما في علم الأصول، فقد كان (دامت بركاته) يُضمِّن مبانيه الأصولية في بحوثه الفقهية، حيث عرض آراءه وبحث جملة من المسائل الأصولية، التي له فيها رأي مغاير بشكل مفصّل داخل البحث الفقهي، إلى أن بدأ بحثه الخارج المستقل في الأصول في شهر ربيع سنة 1445هـ، وقد حرّر إلى الآن خمس مسائل جُمعت في المجلد الأول من «قواعد الاستنباط»، مع بيان منهجه في البحث الأصولي في مقدمة الكتاب.
والذي يدلّنا على أهمية الممارسة المستمرة في البحث والتحقيق، في حصول الخبروية العالية، ما صرّح به أعلام الطائفة، من أن الاجتهاد ـ فضلا عن مرتبة الأعلمية ـ ليس تحصيلا نظريا مجرّدا، بل ملكة عملية لا تتكوّن إلا بكثرة الممارسة وطول الاشتغال بالبحث والاستنباط.
إن استمرارية شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في البحث والتحقيق فقها وأصولا، مع ما ذكرناه واستدللنا عليه _ في رسالة مستقلة_ من ملكة استنباطية راسخة لدى سماحته، تكشف بلا أدنى شك عن الخبروية العلمية العالية لديه. ومن وجهة نظري أن هذا الأمر واضح، لا يحتاج إلى استدلال وبيان، ولولا بعض أيادي التشويه لما احتجنا إلى ذلك. ولو كان هذا الاشتغال بحثا وتحقيقا موجودا لدى شخصية أخرى غير مستهدَفة، لما تردد أحد في القول بما قلناه وانتهى إليه.
ومما يشهد لما ذكرناه، أن المرجع الراحل المرحوم السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (قدس الله سره)، كان يرى في شيخنا الأستاذ مرجعية قوية واعدة _بحسب ما رواه اثنان من العلماء المقربين إليه_، ووجهّ رئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت (عليهم السلام)، التي يشرف سماحته عليها بنشر الأبحاث الفقهية الاستدلالية لسماحة المرجع، في قسم البحوث الإجتهادية التي تنشر أبحاث المراجع الكبار، ووصفها في ذات بأنها أبحاث رصينة ودقيقة.
ويؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه أيضا، ما تقرُّه القواعد العقلائية ويشهد له الواقع الخارجي، من إنّ الاستمرار الطويل في البحث والتحقيق، في أيّ علم من العلوم البشرية، كفيل_ بطبيعته_ بإنتاج عمق الخبرة ورسوخ الملكة العلمية ونضوجها. ولا يخرج علم الفقه عن هذه القواعد، بل هو أولى بالانضباط لها، كونه علما استدلاليا تراكميًا يقوم على كثرة الممارسة، وديمومة الاشتغال.
والعجب كل العجب بعد كل هذا العمر الحوزويّ والاشتغال العلميّ لشيخنا الأستاذ، بالبحث والتحقيق، بما قارب العشرين عاما، من بعض الانتفاعيين والمدلّسين، ممن عرفوا الحقيقة واستيقنتها أنفسهم، لكنهم جحدوها، وأخذوا يشككون في بديهية اجتهاده (دامت بركاته). وكأنهم يستهدفون الحقيقة بتوصية من السماء أو من المعصومين (عليهم السلام) على كسر هذا العَلَم الجليل، وهيهات ثم هيهات لهم ذلك.
ومن هذا المنطلق أتوجه إلى الآيات والحجج والعلَّامات، بأن يقولوا كلمتهم بهذا الشأن، ويرفعوا الحيف الذي وقع على سماحة شيخنا الأستاذ، أما بالكتابة والإشادة، أو لا أقل بمنع الانتهازيين والانتفاعيين، ممن دأبوا على تشويه هذه الحقيقة الواضحة، فإن قول الحق مهما كانت النتائج والضغوطات، من أبرز سمات المذهب وقادته الربانيين.
الشيخ عباس الناصري
6 رجب الأصب 1447 هـ