مدخلٌ فلسفي ورسالي لسلسلة قراءة في كتاب “قناديل العارفين” للشيخ محمد اليعقوبي
بين يوسف والسيد الشهيد… لا جدران تعيق النور
في كل زمن قيد، هناك نبيٌ يُبعَد عن الناس، أو وصيٌ يُسجن خلف الأسوار، لكنّ الروح حين تحمل الهمّ الإلهي لا تحتاج إلى فسحةٍ مادية كي تُنير. يوسف عليه السلام في السجن صار مفسّرًا لأحلام الملوك، ومحمد الصدر في الإقامة الجبرية بات يُخرّج العارفين، يختارهم بعين القلب لا بأجهزة الحوزة، ويوصل لهم شعلة النور من خلف كل الحجب الحديدية التي نصبها نظام البعث.
تحت تلك الإقامة التي خنقت أنفاس النجف، كان اللقاء استثنائيًا. شابٌ لم يكن الأكثر شهرة، لكنه حمل صدقًا لا تخطئه البصيرة، جلس أمام رجلٍ محكوم عليه بالصمت، فتكلم معه. كان اللقاء أشبه ما يكون بلحظة تسليم أمانة. لا كلمات كثيرة، لكن في ما قيل، وخصوصًا في ما لم يُقَل، كان هناك سر: قابلية على حمل الرسالة في زمن لا أحد يريدها.
الشيخ محمد اليعقوبي: الممهور بخاتم العارف
ليس من السهل أن يُمنَح أحد هذا الإذن العرفاني في أصعب لحظات الحصار. ولكن، السيد الشهيد لم يكن يبحث عن طالب علمٍ يكتب أو يُجادل، بل عن روحٍ تتحمل ثقل الرسالة، وكان يعلم أن أيامه معدودة. لذا، جاء تجاوبه مع الشيخ محمد اليعقوبي، لا كمجرد استجابة لرغبة طالبٍ في العلم، بل كقرار استراتيجي عارف بأن الشعلة يجب أن تنتقل قبل أن تُطفأ في العلن.
هذا التجاوب ليس فعلاً عاديًا، بل كما كتب أحد العارفين: حين يميز القلب قلبًا، فذلك سر لا تُدركه الحواس. في هذا اللقاء، سلّم العارف قنديله لعارفٍ آخر، دون ضجيج، لكن بتوقيعٍ روحيٍ لا يُمحى.
القنديل الأول: لماذا بدأ الكتاب بالعرفان؟
كتاب قناديل العارفين ليس مجرد تنظير في علم السلوك، بل هو إعلان انطلاق في مشروعٍ روحي يتجاوز الإطار الحوزوي التقليدي. ابتدأ الشيخ محمد اليعقوبي بهذا القنديل لأن العرفان هو بوابة التحرر من الجمود، وهو سرّ الثورة الباطنية على فساد الداخل قبل الخارج.
لم يختر هذا القنديل لأن الناس تحب العرفان، بل لأنه يعلم أن الأمة التي لا تتطهّر من الداخل، لا تستطيع أن تبني مجتمعًا رساليًا. في مجتمعٍ اختلطت فيه الأوراق بين التدين المزيف والتجهيل الرسمي، العرفان ليس ترفًا، بل ضرورة.
نحو قراءة واعية لكتاب “قناديل العارفين”
في هذه السلسلة، لن نقرأ الكتاب كمتنٍ حوزويٍ جاف، بل كرسالة من زمن مضغوط، أُطلقت من قلب الحصار، وتواصلت لتصل إلينا بعد أن تجاوزت جدرانًا كثيرة: من الأمن، ومن الغفلة، ومن الطاعة العمياء.
سنبدأ من القنديل الأول، ونتدرج في تحليل كل قنديل بما يحمله من رؤية فلسفية، وهمّ إصلاحي، واشتباك مع أزمة الإنسان المعاصر.
سنتساءل مع كل قنديل: لماذا كُتب؟ لمن؟ وماذا أراد أن يوقظ فينا؟
—
بقلم نهاد الزركاني
كاتب وباحث في الفكر الرسالي ونقد البُنى المغلقة