بقلم: نهاد الزركاني
مقدمة:
منذ أن خطّ ابن خلدون مقدمته الشهيرة، تمركزت الأنظار حول عبقريته التأسيسية لعلم الاجتماع، وتناولها كثيرون بإعجاب لا يخلو من التقديس. غير أن القراءة النقدية، بوصفها أداة وعي وتحرر، تدعونا إلى أن نُعيد النظر في هذه المقدمة لا بوصفها نصًا مكتملًا، بل مشروعًا جزئيًا أنتجه سياق محدد، يعكس رؤى عصره وتناقضاته، وربما محدوديته أيضًا.
أولاً: عدالة الطرح وتحيزات الانتماء
ما يلفت الانتباه في مقدمة ابن خلدون هو عدم عدالة الطرح في معالجته للفرق الإسلامية، إذ بدا جليًا انحيازه المذهبي من خلال توصيفاته غير المحايدة لبعض الجماعات والفرق، وهو أمر يمكن رده إلى انتمائه لطبقة فقهية موروثة كانت ترى في بعض الحركات تهديدًا لبنية السلطة الدينية والسياسية، لا سيما في لحظة تاريخية كانت فيها الدولة تمر بمراحل تفكك وانقسام.
ثانيًا: البنية الاجتماعية وعمى السياق
أغفل ابن خلدون التمايزات الجوهرية في البنية الاجتماعية للعالم الإسلامي، وتحديدًا في ما يتعلق بالصفات والتقاليد الاجتماعية الخاصة بكل مجتمع. فتعميمه لأحكامه على البدو والحضر، أو على العرب والأعاجم، جاء أقرب إلى أحكام مسبقة من أن يكون تحليلًا موضوعيًا، وهو ما يُضعف قدرة المقدمة على تقديم قراءة دقيقة لتحولات الاجتماع السياسي والثقافي.
ثالثًا: الانتماء الطبقي ووعي الذات
ينحدر ابن خلدون من أسرة أندلسية ذات مكانة علمية واجتماعية مرموقة، وقد حظي بتعليم ممتاز ومناصب سياسية وعلمية رفيعة. هذا الانتماء الطبقي قد يكون قد أثر في رؤيته للفئات الشعبية أو المهمشة، فكان تعاطيه معها أقرب إلى التوصيف الأخلاقي أو الفلسفي، دون أن يمنحها مكانة تحليلية تليق بدورها في صناعة التحولات التاريخية.
رابعًا: بين رفض الواقع وتأمل الخراب
من المحتمل أن تكون مقدمته في جانب منها رد فعل وجداني على واقع متهالك، لا محاولة لتجاوزه فعليًا. إذ بدت كتابته أقرب إلى وصف الخراب الحضاري بلغة فلسفية، منها إلى مشروع نقدي يقترح مخرجًا معرفيًا أو اجتماعيًا. فهو رصد العوامل المادية لانهيار الدول، لكنه لم يتجرأ على مساءلة البنى العميقة التي أنتجت هذا الخراب، كالدين المؤدلج أو السلطة المطلقة.
خامسًا: غياب التحليل التاريخي الدقيق
لم تكن المقدمة – على الرغم من طموحها العلمي – دقيقة في تحليل الأحداث التاريخية، إذ غلبت عليها نزعة التفسير العام المرتبط بدورات العصبية والعمران، من دون الغوص في حيثيات الوقائع أو تفكيكها ضمن سياقاتها المعقدة. فالتاريخ عنده يتكرر وفق نمط يكاد يكون قدريًا، مما يُضعف من قدرة العقل النقدي على مساءلة الأسباب الحقيقية للتاريخ وصراعاته. لقد غلّب ابن خلدون المنطق التعميمي على منطق البحث في التفاصيل، فبدت تحليلاته وكأنها ترسّخ لحتميات اجتماعية لا فكاك منها، بدلًا من تفكيكها وتحويلها إلى أدوات لفهم الديناميكيات المعقدة التي تحكم حركات الشعوب والدول.
خاتمة: الحاجة إلى قراءة خارج الإطار التمجيدي
إن إعادة قراءة مقدمة ابن خلدون بعيدًا عن التمجيد أو التعظيم المجرد، لا تنال من مكانته الفكرية، بل تُمكننا من تحرير إرثه من سلطة التقديس، وتمنحه حياة جديدة في الوعي المعاصر. فالمقدمة، بكل ما فيها من عمق ونواقص، تمثل لحظة تأسيس مهمة، لكنها ليست نهاية المطاف. إن التحدي الحقيقي اليوم هو أن نحول هذه اللحظة من إرث ساكن إلى مشروع متجدد، يحاور أسئلتنا الراهنة، ويستنطق ما غاب عن وعي المؤسس، لا سيما في ظل التحولات الاجتماعية والسياسية التي تُلزمنا برؤية تتجاوز السياق التقليدي نحو أفق أكثر نقدًا وتحريًا للعدالة والمعنى.