ظاهرة البكاء والانهيار العاطفي عند رؤية المشاهير، خصوصاً عند المراهقات، تعدّ واحدة من السلوكيات التي اعتنى بدراستها علماء النفس، ولها تفسيرات علمية وتربوية، وهي ليست مجرد مبالغة أو دلال، بل ترتبط بمنظومة نفسية واجتماعية كاملة.
ففي مرحلة المراهقة، والتقلبات الانفعالية، حيث يكون الشخص في ذروة الحساسية الانفعالية، فإن الجهاز العصبي، خاصة الجهاز الحوفي، المسؤول عن العاطفة، يكون في أقصى نشاطه، بينما قشرة الدماغ الأمامية المسؤولة عن ضبط النفس لم تكتمل بعد، لذلك يصبح الفعل العاطفي أقوى من الضبط العقلي.
إن هذا الارتباط الوجداني الشديد بالمشاهير له أسباب عديدة منها:
1. العلاقة الطفولية البديلة، والتي يصفها علم النفس باسم: (العلاقة أحادية الجانب)، حيث يشعر الفرد فيها بأنه يعرف المشهور شخصياً، ويتعلق به، رغم أن المشهور لا يعرف بوجوده أصلاً.
ومن أسباب نشوء هذه العلاقات: الفراغ العاطفي، والحاجة إلى قدوة أو بطل، والبحث عن هوية أو نموذج يُحتذى، وقلة التربية وانعدام الهدف.
2. الدماغ يتعامل مع المشهور وكأنه شخص قريب، فعندما ترى الفتاة مغنياً تحبه: يتم تحفيز مراكز المكافأة في الدماغ، ويرتفع مستوى هرمون الارتباط، فيشعر الجسد بأن (الحبيب) أو (الشخص المقرب) قد حضر فجأة بعد طول انتظار، ولهذا نرى حالة الارتجاف، وضيق التنفس، والبكاء الشديد، وفقدان السيطرة، وهي نفس أعراض الانفعال الشديد أو الهلع العاطفي.
إن التعويض العاطفي من أسباب حدوث هذه الظاهرة، فإن بعض الفتيات يعشن نقصاً في التقدير الأسري، أو قلة في وجود نموذج ذكوري أو أنثوي يُحتذى به، أو ضعفاً في الانتماء الاجتماعي.
فتتعلق الفتيات بالمشهور، الذي يعطيهن: شعوراً بالقبول، وصوتاً يلامس مشاكلهن، أو حضوراً عاطفياً يفتقدنه في حياتهن، فيتحول الإعجاب إلى (هوية).
ومن الواضح في المراهقة، فإن الإنسان يبحث عن أجوبة أسئلة من قبيل: من أنا؟ ما الذي يميزني؟
ولهذا فإن المعجبات بالفنانين والمغنين يشعرن أن المشهور يمثل جزءاً من هويتهن: ملابس، أسلوب، كلمات، أغاني، طريقة تفكير، لذلك فإن رؤيته أشبه برؤية (جزء مني).
أما البكاء والانهيار، عند رؤية المشهور، فهو عبارة عن تفريغ انفعالي، فعندما تتكدس المشاعر لمدة طويلة (سنوات من المتابعة والحب والانبهار)، ثم يظهر المشهور فجأة أمام الفتاة، فسوف يحدث عندها: انفجار عاطفي، وهذا استجابة نفسية طبيعية تشبه: بكاء الأم عند لقاء ابنها بعد غياب طويل، أو بكاء شخص بعد نجاح كبير.
وهنا نشاهد الارتعاش، وسرعة ضربات القلب، وعدم القدرة على التنفس، والبكاء بلا سيطرة، فإن رؤية المشهور الحقيقية، بعد سنوات من الاعجاب والهيام والمتابعة، تهز البنية النفسية المستقرة.
فتأتي الرغبة في (امتلاك اللحظة)، ويتحقق السعي نحو الاتصال الجسدي، كشكل من أشكال الأمن النفسي، ويرتفع هرمون يحفّز الحاجة للعناق، وهذا السلوك لا يعني انحرافاً، بل اندفاعاً عاطفياً غير منضبط مع الأسف.
وأخيراً..
فإن هذه الظاهرة.. طبيعية؟ أم حالة مرضية؟
من المؤكد أن التعلق بالمشاهير العظماء حقاً، كمتابعة الحكماء والإعجاب بالعلماء والأدباء والمخترعين، والشغف بهم، ثم رؤيتهم فجأة، وما يحصل من بكاء وشبه انهيار أمامهم، فإنه أمر طبيعي، للأسباب المتقدمة أعلاه..
أما رؤية المطربين والفارغين، والمتحللين والناس السطحيين وغير الهادفين، فإن انهيار فتيات مسلمات وفي مجتمعات محافظة أمامهم، أمر يدعو للارتياب وبالتالي للدراسة السريعة لأنه نذير خطر.
ففي ذلك إشارة إلى أن الفتاة، التي تجهش بالبكاء عند رؤية المطربين، ثم تحاول عناقهم، هي ضحية تفسخ تربوي، وانحطاط قيمي، وضعف كبير في التربية الدينية.
وهنا يأتني دور المربين والعلماء والإعلام الهادف، في التركيز على الأهداف الحقيقية التي يجب أن يسعى نحوها أفراد المجتمع، وعليهم تقديم القدوات الصحيحة والنماذج الطيبة التي تستحق الاقتداء، والدعوة لمنع نشر مظاهر الفسق والفجور، كالغناء والطرب والحفلات المختلطة والماجنة.
هذا ويمكن ومن خلال تقوية الهوية الذاتية، لبنات مجتمعنا، وإشغال أوقاتهن بالهوايات والأنشطة النافعة، والحوار الهادئ مع الفتيات، وشرح الهدف الحقيقي في هذه الحياة التي نعيشها، وأن دنيا المشاهير صورة مزيفة لا تعكس حقيقة الإنسان.
والأهم تعزيز العلاقة الأسرية، بزيادة منسوب الحب الأسري، الذي يقلل حتماً الحاجة لحب بديل، بالإضافة إلى التربية الدينية، القائمة على الوعي وليس القمع، قال تعالى: (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).
نسأل الله تعالى السلامة لبناتنا والاستقامة لكل أفراد المجتمع.
د. حازم الحسيني