خلال مشاركتي اليوم، في درس بحث الخارج في الأصول لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)، لفت نظري أن سماحته يمتلك عقلية فلسفية، بمعنى تحليه بقدرة التفات عالية لمختلف حيثيات القضية التي يعمل عليها ويتناولها في البحث.
فوجدت نفسي أستحضر دروس العلّامة السيد الطباطبائي في كتابيه بداية الحكمة ونهاية الحكمة، حيث استطاع السيد الطباطبائي أن يتجاوز الكثير من الإشكاليات الفلسفية عبر ملاحظة دقيقة لحيثيات القضايا وتعقيداتها.
واليوم، رأيت نفس البُعد في طريقة تناول سماحة المرجع اليعقوبي للموضوع الأصولي “حقيقة الواجب الكفائي”، إذ إنّ من أهم سمات الطباطبائي في حل الإشكاليات الفلسفية العميقة كان التوقف عند الحيثيات الدقيقة للقضية، والتعامل مع الموضوع لا بوصفه مسألة ذهنية مجرّدة، بل بوصفه كشفاً عن منطق الوجود وعناصر تكوّنه.
وهو ما لمسته بعينه اليوم في درس سماحة المرجع اليعقوبي؛ حيث أشار إلى أن من أسباب استعصاء بعض المطالب الأصولية والفقهية على أذهان الباحثين، هو غياب الالتفات إلى أن الخطاب التشريعي في مواضع عديدة لا يتوجه إلى “الفرد” بما هو فرد، بل إلى “الأمة” بما هي كيان جامع لها وجود اعتباري ومعنوي وهي محل نظر الشارع.
هذا الالتفات الدقيق يُفسر لنا لماذا يعجز الفقه أحياناً عن فهم بعض المسائل عندما يتم التعامل معها من زاوية فردية فقط، إن بعض الإشكاليات التي تواجه الفقهاء في تفسير الأحكام، ناتجة عن الغفلة عن هذا البُعد الجمعي في نظر الشارع المقدس.
إنها عقلية تُشبه عقلية الفلاسفة، لكنها موظفة بدقة في حقل الفقه والأصول، مما يجعل من دروس سماحة المرجع، فضاءً غنياً لتجديد الفكر الأصولي وإعادة قراءة الشريعة بمنظور أكثر شمولية وعمقاً.
إنّ ما يتبدّى من ملامح عقل المرجع اليعقوبي في هذا النمط من الطرح، هو امتزاج نادر بين دقّة الفقيه وبصيرة الفيلسوف، عقل يُحسن النفاذ إلى الجذور، ويملك الجرأة على إعادة مساءلة المسلّمات، مما يجعله مؤهلاً لإطلاق مشروع فقهي ـ أصولي يعيد لهذا العلم روحه الاجتهادية الخلّاقة، وينقذه من رتابة التكرار وأَسْر المعالجات النمطية المدرسية.
والحمد لله رب العالمين.
الشيخ هادي حسين ناصري