وهي صغرى لمسألة ما ((إذا عزم المسافر على الإقامة في غير بلده عشرة أيام ثم خرج إلى ما دون المسافة))، لأن المسافة بين مكة وعرفة اليوم أصبحت أقل من حد التقصير، وإنما جُعلت هذه المسألة عنواناً للبحث من جهة كونها الفرد الأكثر ابتلاءً اليوم من تطبيقات هذه المسألة، وتثير الجدال والخلاف بين الحجيج في كل موسم مع ما احتمال الخصوصية للخروج إلى عرفة.
وهنا قد يقال بالاستغناء عن البحث في المسألة لوجود روايات معتبرة تصرح بأن حكم أهل مكة التقصير في عرفة، فالمقيم كذلك إما لأن الخروج إلى عرفة سفر شرعي أو لأجل سفره الأول من وطنه الأصلي –كما يبني عليه البعض- أو لأنه بمنزلة أهل مكة فحكمه التقصير، وليس من المحتمل أن يكون حكمه التمام.
ومن الروايات في أهل مكة صحيحة معاوية بن عمار (أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال: ويلهم أو ويحهم وأي سفر أشد منه! لا تتم) وصحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم ثم رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا) باعتبار تقصيرهم عند خروجهم إلى عرفات، وموثقته قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم أقصر الصلاة؟ فقال: في بريد ألا ترى أن أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير) وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): (إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجاً قصروا، وإذا زاروا ورجعوا إلى منزلهم أتموا).
ودلت صحيحة زرارة على تنزيل المقيم منزلة أهل مكة وقد رواها عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر).
وحينئذٍ يقال إن باب البحث في هذه المسألة مسدود لوضوح الحكم بالتقصير.
وجوابه: إن مكة اليوم اتسعت ولا تبلغ المسافة بينها وبين عرفة حد التقصير، بينما كانت في زمن المعصومين (عليهم السلام) تبلغ المسافة الشرعية فالروايات المتقدمة تكون أجنبية عن محل البحث.
والبحث في هذه المسألة مرتبط بتحقيق الحال في مسألة خروج المقيم إلى ما دون المسافة فقد قيل فيها : ((من مهمات المسائل وأمهات المعاضل قد اختلف فيها علماؤنا السابقون ومشايخنا المعاصرون)) وسماها صاحب الجواهر (قدس سره) في بعض كلماته بالمعركة العظمى وأنها قد ((اضطربت فيها الأفهام، وزلّت فيها أقدام كثير من الأعلام))، ومن مظاهر هذا الاضطراب: الخروج عن مفروض المسألة والاستدلال بما هو أجنبي عنها، وعدم الانسجام بين المباني في المسائل المرتبطة بها، التي يبحثها الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في مواضع مختلفة، وقد تتقاطع مبانيهم فيها لكن ذلك قد لا يُلتفت إليه على طبق منهجيتهم في البحث.
ويمكن تصوّر فروع عديدة ذكرها المشهور في مسألة خروج المقيم إلى ما دون المسافة في ضوء العناصر المؤثرة فيها، وسنتعرض لعدد من الصور ويعرف حكم غيرها منها.
قال صاحب العروة (قدس سره) في المسألة (24) من (فصل: في قواطع السفر موضوعاً أو حكماً): ((إذا تحقّقت الإقـامة وتمّت العشرة أو لا وبدا للمقيم الخروج إلى ما دون المسافة ولو ملفّقة فللمسألة صور)).
الصورة الأولى: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة واستئناف إقامة عشرة أخرى، وحكمه وجوب التمام في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة الأولى، وكذا إذا كان عازماً على الإقامة في غير محلّ الإقامة الأولى)).
الصورة الثانية: أن يكون عازماً على عدم العود إلى محلّ الإقامة وحكمه وجوب القصر إذا كان ما بقي من محلّ إقامته إلى مقصده مسافة، أو كان مجموع ما بقي مع العود إلى بلده أو بلد آخر مسافة، ولو كان ما بقي أقل من أربعة على الأقوى من كفاية التلفيق ولو كان الذهاب أقل من أربعة)).
الصورة الثالثة: أن يكون عازماً على العود إلى محلّ الإقامة من دون قصد إقامة مستأنفة لكن من حيث إنّه منزل من منازله في سفره الجديد، وحكمه وجوب القصر أيضاً في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة)).
الصورة الرابعة: أن يكون عازماً على العود إليه من حيث إنّه محلّ إقامته بأن لا يكون حين الخروج معرضاً عنه بل أراد قضاء حاجة في خارجه والعود إليه ثمّ إنشاء السفر منه ولو بعد يومين أو يوم بل أو أقل، والأقوى في هذه الصورة البقاء على التمام في الذهاب والمقصد والإياب ومحلّ الإقامة ما لم ينشئ سفراً، وإن كان الأحوط الجمع في الجميع خصوصاً في الإياب ومحلّ الإقامة)).
والراي المختار لسماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في هذه المسألة هو لا يصحّ للمقيم أن يخرج قبل إتمام العشرة إلى ما ينافي صدق الإقامة عرفاً، مما يعدُّ عرفاً أنه سفر وخروج كالوصول إلى ما يقارب المسافة الشرعية ولو لزمن قصير، أو المكث خارج محل الإقامة زمناً طويلاً يضرّ بشرط إتمام العشرة كعشر ساعات من النهار فضلاً عن المبيت خارجه.
أما من أتم العشرة فله الخروج إلى ما دون المسافة مطلقاً.
ويجوز له على وجه المبيت خارج محل الإقامة، بل قطع المسافة من دون أن تبطل إقامته إذا عاد إلى محل الإقامة لمواصلة الإقامة، وإن لم ينوِ عشرة مستأنفة فيه، فيصلي حينئذٍ تماماً. لكن الأحوط الاقتصار على من أقام عشرة أيام في مكة دون غيرها من البلدان وأيام موسم الحج للناسكين دون غيرها من الأزمان، وحالة الخروج إلى عرفة ومنى دون غيرها من الأحوال. لكن هذا الاستثناء أصبح لاغياً اليوم لدخول عرفة اليوم في المسافة.
ومقتضى الاحتياط الجمع في غير هذا الاستثناء مراعاة لاحتمال التجريد عن الخصوصية في دليل التعميم، فمن نوى الإقامة في النجف الأشرف عشرة أيام وأتمها ثم ذهب إلى كربلاء المقدسة يوماً أو بضعة أيام مع استمراره على اتخاذ النجف مقراً لإقامته، جمع بين القصر والتمام عند عودته إلى النجف حتى يغادرها أو ينوي عشرة مستأنفة فيتم لأجلها.
فإذا نوى المسافر الإقامة عشرة أيام في بلد كان حكمه التمام، ولو عدل عن نية الإقامة قبل أن يصلي فريضة تماماً رجع إلى القصر، وإن كان بعد أن صلى فريضة تماماً فحكمه البقاء على التمام حتى يخرج.
ومعنى الخروج هنا هو الخروج إلى ما ينافي صدق الإقامة عرفاً من حيث المكان أو الزمان لمن لم يتم العشرة، فإن أتمها كان معنى الخروج الارتحال عن محل الإقامة حقيقة، أو تنزيلاً فيما لو نوى إقامة عشرة أيام في بلد آخر.
فمن قدم مكة قبل الخروج إلى عرفة بعشرة أيام ونوى الإقامة فيها، أتم عند ذهابه إلى عرفات لقضاء نسكه، وكذا في منى طيلة أيام التشريق، سواء عاد إلى مكة خلال هذه الأيام لإتمام مناسك الحج أو بقي في منى.
ومن قدم مكة قبل خروجه إلى عرفة بأقل من عشرة أيام لم تصحّ منه نية الإقامة لعلمه بارتكاب ما ينافي صحة الإقامة بالخروج إلى عرفة والمبيت في المزدلفة.
انظر موسوعة فقه الخلاف لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) , ج7, ص 271, والصادر عن دار الصادقين 1441هـ- 2020م.
يمكنك الاشتراك أيضا على قناتنا في منصة يوتيوب لمتابعة برامجنا على: قناة النعيم الفضائية