في زمنٍ يتسارع فيه التحوّل، وتتبدّل المفاهيم والقيم بلمح البصر، لم تعد المرجعية الدينية مجرّد منصّة لإنتاج الفتوى أو إدارة شؤون المكلفين من خلف الجدران، بل تحوّلت – بحكم طبيعة العصر – إلى مشروع حضاري متكامل، يتطلب رؤيةً عميقة وحضورًا ذكيًا وتفاعلًا حيًّا مع قضايا الواقع وهموم الإنسان.
– المرجعية ليست مؤسسة فتوى فحسب
كثيرون يظنون أن المرجعية هي مجرد جهاز متخصص في بيان الحكم الشرعي وتنظيم الحياة الفقهية للمؤمنين. لكنّ هذه النظرة – وإن لم تكن خاطئة – إلا أنها منقوصة وخطيرة إذا جُمّدت عند هذا الحد.
المرجعية في جوهرها، هي بوصلة الحراك الشيعي، ومعيار فاعليته في التاريخ والاجتماع والسياسة والثقافة. فهي التي تحفظ الهوية حين تضيع، وتستنهض الأمة حين تفتر، وتُعيد رسم أولوياتها حين تختلط الأوراق. وهذا هو الفارق بين المرجعية التقليدية والمرجعية الرسالية.
– لحظة التحول: تحديات العصر وأدواته
نحن نعيش لحظة فارقة، عنوانها الانفجار المعرفي والرقمي، والتحوّلات الاجتماعية المتسارعة، وغزارة التيارات الفكرية، وتنامي الشكوك حول المرجعيات والمؤسسات التقليدية.
وفي هذا السياق، فإن المرجعية التي لا تمتلك أدوات عصرها، ولا تنفتح بذكاء على الجمهور، تُهدّد – من حيث لا تدري – بأن تخلّي الميدان للجهات الزائفة والتيارات المنحرفة التي ترتدي قناع الدين وتخاطب الجيل بلغة معاصرة وإن كانت مضللة.
بين الصمت والحضور: من يملأ الفراغ؟
– حين تغيب المرجعية عن الناس، لا يعني ذلك أن الناس ستتوقف عن البحث عن الإجابة. بل ستذهب إلى من يقدّم لها إجابةً سريعة، أو يحاكيها بلغة عصرها، وإن كانت تلك الإجابة زائفة.
وهذا ما نراه اليوم في بروز “مرجعيات الظل” أو “مرجعيات السوشيال ميديا”، ممن يملكون براعة إعلامية، وشبكات تواصل واسعة، وجرأة على اقتحام الساحة بخطاب منفلت، يدّعي تمثيل الدين ويعبث بالوعي.
– الشيخ اليعقوبي: نموذج المرجعية الرسالية
هنا يظهر الفرق الجوهري بين المرجعية التي تدير الشأن الفقهي بهدوء خلف الستار، والمرجعية الرسالية التي تنخرط في هموم الأمة وهموم الإنسان، وتُعيد صياغة العلاقة مع المجتمع.
الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يمثّل هذا النموذج النادر في عصرنا؛ حيث نراه:
□ يُزاوج بين العمق العلمي والتجديد الفقهي في موسوعاته الفقهية المتقدمة، مثل فقه الخلاف والفقه الاجتماعي.
□ يُواكب العصر بوسائل تواصل مباشرة، من خلال البيانات المصورة والمكتوبة، والخطابات الموجهة للجيل بلغته ووسائله.
□ يتفاعل مع كل مفاصل الحياة: من الاقتصاد والسياسة، إلى الفن والتربية والتعليم، ولا يكتفي بإصدار الأحكام الفقهية، بل يقدم حلولًا واقعية متكاملة.
□ يُقدّم نموذجًا تربويًا وأخلاقيًا وإنسانيًا ملهمًا، لا فقط في التنظير، بل في السلوك والمعايشة اليومية مع الناس.
– من الاجتهاد إلى القيادة الحضارية
الشيخ اليعقوبي لا ينظر إلى المرجعية كمنصب، بل كمشروع تاريخي لبناء الإنسان والمجتمع. ولهذا نراه يتحدث عن المرجعية الرسالية لا بوصفها نقيضًا للمرجعية التقليدية، بل باعتبارها تطورًا طبيعيًا لدور المرجع في عصر تتقاطع فيه المسارات، ويضيع فيه الصوت الديني النقي وسط ضجيج العناوين.
– مسؤولية النخب والجمهور
إذا كانت المرجعية الرسالية تُجاهد لفتح آفاق التواصل مع الناس، فإن مسؤولية النخب – من مثقفين وطلبة حوزة وأكاديميين – هي أن تواكب هذا المشروع، وتدافع عنه، وتُعيد توضيحه للناس في مقابل حملات التشويش والتشويه.
كما أن على الجمهور أن يرتفع إلى مستوى هذا المشروع، ويتحرر من الاستسلام لخطاب التدجين والجمود، ويمتلك الوعي لاختيار المرجعية التي تتحرك لأجله، لا التي تتخفّى خلف عزلتها.
في الختام:
إننا اليوم أمام لحظة فارقة من التحوّل، لن نتمكن من تجاوزها إلا بمرجعية حقيقية تعي التحول وتدير بوصلته.
ولذلك، فإن المرجعية الرسالية – كما نراها في الشيخ اليعقوبي – ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية، لحفظ الإيمان، وصيانة الوعي، ومواكبة الزمن دون التنازل عن القيم.
فلنتمسك بها، ولنحميها، ولننصرها بما نملك، فإنها تمثل آخر قلاع الهوية في زمن التيه.
بقلم: جعفر العذاري