بقلم: الشيخ إسماعيل كوناتي
الحمد لله على نعمائه، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه، وعلى آله الأطهار الهداة، لا سيّما بقية الله في أرضه، أرواح العالمين له الفداء.
أنا العبد الفقير إسماعيل كوناتي، المستبصر الحوزوي، والباحث في شؤون المرجعية الشيعية، وقد دفعتني المحبّة والإيمان، والوفاء لمن أحيا فينا العزّة، إلى أن أكتب هذا البحث عن مرجعيةٍ ليست كمثلها من المرجعيات، مرجعيةٍ تمشي في الأرض وقلبُها في السماء، مرجعية الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)، تلك التي تتنفس مشروع الإمام المهدي وتعيش في ظلاله لا في خطابه فقط.
ليست هذه الكلمات شعارات، بل هي التزام وجودي، وشهادة عصر، وقراءة عميقة للثقافة الرسالية التي قامت عليها حوزة النجف الأشرف. وقد أردت أن يكون هذا البحث نافذة يطل منها طلاب العلم، والعلماء، والمحبّون، على حقيقة هذا الكيان المقدّس، وعلى الجهود الجبارة للشيخ اليعقوبي في حفظ الدين وبناء الدولة المهدوية على المدى البعيد.
هذا البحث كتبته بنفسي، ونظمتُ أبياته من قلبي، وأهديه لكل من يسير على طريق التمهيد، ويجعل الانتظار فعلاً لا أمنية.
والله المستعان.
أولًا: قِوام الحوزة العلمية في النجف الأشرف
قِوامُ الحوزة النجفية الأصيلة هو «الفقه الرسالي»، لا الفقه التجزيئي، وهي تقوم على أسس أربعة:
1. العلم القويم : وهو التحقيق والتدقيق والتجديد، لا التكرار والحفظ فقط.
2. التقوى العملية: أن يكون العالم متخلقًا قبل أن يكون متعلمًا.
3. الزهد عن السلطة: فلا تصافح الحوزةُ سيف السلطان، بل تصبر على الجوع في سبيل استقلالها.
4. الرسالية: أن يكون العلم لله، وفي سبيل الله، ومع عباد الله.
ولذا، صمدت الحوزة في وجه الطغاة، وأخرجت قادة ثورات ومراجع أمم.
ثانيًا: على ماذا تتبنى حوزة النجف؟
تتبنى حوزة النجف على “التحقيق” لا “التقليد الأعمى”، وعلى “المداراة مع الأصول” لا المهادنة مع الباطل.
وهي لا تنتج مقلدين فقط، بل تنتج الفقهاء المنتجين، ولهذا تجد فيها من يكتب، ويؤسس، ويثور، ويؤلف الموسوعات.
أسسها التربوية تشمل:
– احترام التدرج العلمي.
– الاستقلال عن السلطة.
– التربية على السلوك العرفاني والتهذيب.
ثالثًا: مضامين ثقافة النجف
الثقافة النجفية ذات ثلاث شعب:
1. ثقافة العقل: ويظهر في مناهجها المنطقية والفلسفية الدقيقة.
2. ثقافة الفقه والأصول: التي بلغت فيها النجف الذروة، في أعمال الأنصاري والخراساني والنائيني.
3. ثقافة الأدب والحوار: فالنجفي فصيحٌ، يزن الكلمة بميزان الذهب، ويُحاجج بالأدب لا الصخب.
رابعًا: إثبات المرجعية في النجف الأشرف
المرجعية تُثبت بعناصر ثلاثة:
1. الأعلمية: وهي شرط جوهري، لا يُمنح، بل يُنتزع من خلال التحقيق والدرس.
2. العدالة والسلوك: فالمرجع ميزانه التقوى، لا الشهرة.
3. قبول الأمة والعلماء: أي التفاف أهل الخبرة والعوام حوله.
ولذلك لا تَمنح النجفُ لقب “المرجع” بالسهل، ولا تُؤمن بالشهادات الورقية، بل تُؤمن بالدمع والسهر والصبر.
خامسًا: المرجعية الرسالية للشيخ محمد اليعقوبي
إن الشيخ محمد اليعقوبي هو من حفظ النهج الرسالي للصدر، وبثّ في روح الحوزة رسالة التمهيد، وهو ممن جمع بين التحقيق الفقهي، والوعي الاجتماعي، والانفتاح العقلي.
من مؤلفاته الكبرى:
– “فقه الدولة الإسلامية”
– “المرجعية الدينية العليا”
– “دولة الإمام المهدي”
– “نحو حوزة رسالية”
سادسًا: مرجعية اليعقوبي ومشروع الإمام المهدي (عج)
الشيخ اليعقوبي هو من قلائل من جعلوا التمهيد مشروعًا لا شعارًا. ففي كتابه “دولة الإمام المهدي”، أسّس لفكرة الدولة الربانية قبل الظهور.
جاءَ الزمانُ وفي الدُجى قمرٌ سرى
هوَ اليعقوبيُّ التقيُّ إذا جرى**
نادى المهيَّا في الدُّجى: قُم واهتدِ
فالفجرُ يُبصرُ من سعى وتحرّرا**
الختام
المرجعية ليست وظيفة إدارية، بل أمانة وجودية، ولا تُقاس بالهالة، بل بالفعل. وإن الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) أثبت أنه ليس فقط مرجع تقليد، بل صانع وعي، وبانٍ لدولة الغد، ومهديٌّ في خطّه، وإن لم يَدّعِ العصمة.
فليكن هذا البحث نبراسًا لكل طالب علم يتلمّس الطريق في ليل الانتظار الطويل.
والله الموفّق إلى سواء السبيل.