“أنا … في ذلك الوقت غير موجود وصافي عليَّ الماء وفارغ الذمة … ادّيت ما عليَّ”
استشراف السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وتخطيطه وسلوكه وكذلك القيادة النائبة كان بمنتهى الدقة وهذا ينبئ بحد ذاته على عظم شخصيتهما وحنكتهما القيادية …
اليوم أحببت في هذا المنشور تسليط الضوء على الاستشراف الرابع للسيد الشهيد الصدر (قدس سره) وهذا الاستشراف جاء في لقائه مع أئمة الجمعة المسجل والمصور والمنشور وهذا الاستشراف جاء أثناء حديثه على وصول عدد من طلبته إلى الاجتهاد مجتهدين وقبل نقل النص الذي فيه استشراف السيد الشهيد (قدس سره) لابد من ذكر مقدمة مهمة حتى تتضح الصورة أكثر للقارئ …
إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) في أكثر من لقاء كشف أن من أهم أهدافه هو إيجاد مرجعية تكمل مسيرته حيث قال (قدس سره):
(… هدفي إيجاد مرجعية صالحة عادلة حقيقية وقاضية لحوائج الناس تترفع عن الماديات وعن الدنيويات )[1]
وفي لقاء آخر قال (قدس سره):
(أنا قلت أكثر من مرة وليسجل، أنتم بعضكم ربما لم تسمعوه، أنا لا أعلم، أني أنا إنما استهدفت إيجاد المراجع للمستقبل)
وفي نفس اللقاء أوضح (قدس سره) ( أن وجود مراجع حقيقيين قابلين لتسلُّم القيادة هو أهم حتى من صلاة الجمعة و من كل المجتمع المعاصر ).[2]
وفي محاضرة له (وهي مسجلة) قبل شروعه في تدريس الكفاية قال (قدس سره): ( إن من أهداف ما أنا مستهدفه إيجاد مراجع للمستقبل ).
وإن حفظ الحوزة الناطقة وحفظ التشيع لا يكون إلا بإيجاد المرجعية الصالحة
ولهذا قال (قدس سره) في نفس الكلمة: ( أريد أن أحفظ مستقبل الحوزة في إيجاد المجتهدين ) .
وأوضح أن هذا الهدف ضروري كولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال (قدس سره) ما نصه:
(فمن الضروري مئة بالمئة في عنقي وعنقكم وعناقنا في أعناقنا جميعا، لربما بمعنى من المعاني كولاية أمير المؤمنين حفظ حوزة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وذلك بحفظ سلسلة علوم أهل البيت سلام الله عليهم جيلا بعد جيل أي على مستوى الاجتهاد ، هو ما ينحفظ على مستوى السطوح وان قلتَ قلتُ …، على مستوى الاجتهاد وعلى مستوى الأعلمية وعلى مستوى المرجعية وعلى مستوى بحث الخارج ونحو ذلك من الأمور، الذي شــيصير ؟ يصير على أنه إذا بقينا متسيبين نبحث عن مدرسين ولا نجد ماذا سوف يحصل ؟ يبقى إننا كلنا أيضا شيبا وشبانا سوف نموت بدون مرجعية، بدون ان نحصل على مرجع واحد من المجموعة .. . )
وفي لقاء الحنانة الجزء الثالث قال (قدس سره): ( الاجتهاد هو الذي يحفظ التشيع ، والذي يحفظ المذهب، والذي يقضي الحاجات العامة الاجتماعية حقيقةً )
وأوضح (قدس سره) خطورة التسامح في هذا الهدف من قبل الجميع وعدّه جريمة حيث قال:
بالحوزة يقبل كثيرين والظروف تهزر (نكدر نقول ) قسم تضطره إلى الخروج أو تضطره إلى التسامح ، أما أن تضطر الظروف التسامح في الجميع فهو جريمة حبيبي أنا أجرمها وأنت تجرمها والمجتمع يجرمها وعوام الناس يجرموها ، إذا كان .. على هذا .. يعني (شنو) انه إذا أردنا أن نُكفى شر الجريمة بعون الله ينبغي أن نستهدف عن جد حقيقي (شنو) إيجاد المجتهدين .
وكشف (قدس سره) في نفس الكلمة أن هناك من لا يريد أن يكون من هذا الشباب النير الواعي مجتهدا حيث قال (قدس سره):
أن هناك طبقة من الحوزة لا تريد أن يكون من هذا الشباب النير الواعي مجتهدا ، لا تريد هناك مجتهد ، لا تريد هناك مجتهد ، خير لهم أن يقصروا الاجتهاد عليهم ولا يتسرب إلى غيرهم لكي يحكموا الحوزة بما يريدون ، اتقوا شر من أحسنت إليه حبيبي ، فحينما يرفض يجي ابالي [ثم ذكر مثالا على ذلك] كذلك ما أسهل انه الفرد منكم أو منا لا يصل السطوح العالي ، ما يدرسوه كفاية اعتيادي منتهين منه ، فيتعذر مئة بالمئة عليه الاجتهاد ، كيف يصبح مجتهد وهو لا يعرف السطوح العالي ، وكيف يصبح مرجع وهو غير مجتهد (ما يصير) ، إذاً هم خلصانين من عندنه جميعا مصفينه .[3]
وبعد هذه المقدمة نذكر كلمة السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الذي فيها استشرافه المستقبلي وذلك في لقاء أئمة الجمعة الذي كان تاريخه في جمادى الثانية 1419هـ الموافق أيلول 1998م أي قبل ستة أشهر تقريبا من استشهاده حيث قال (قدس سره):
(إذا بقيت الحياة لعدة سنوات ربما مثلا خمسة إلى عشرة يوجد هناك أكثر من مجتهد ، خمسة ، ستة ، عشرة، حينئذ في ذمة المجتمع أو في ذمة الحوزة تعيين أعلمهم من ناحية، وتعيين أخلصهم من ناحية أخرى، قلدوه كائنا من کان، أنا بعدها لا يهمُّني، لأنه في ذلك الوقت غير موجود وصافي على الماء وفارغ الذمة، أنا حينما كنت حياً أديت ما علي، إذاً كان هذا بتوفيق ربي وبدون عجب وإنما كل الأعمال الصالحة بيد الله – محل الشاهد .)
وفي هذه الكلمة توضح عدة أمور مهمة منها:
1- السيد الشهيد الصدر قال (إذا بقيت الحياة لعدة سنوات ربما مثلا خمسة إلى عشرة يوجد هناك أكثر من مجتهد ، خمسة ، ستة ، عشرة) ولم يقل أنه سيكون هناك مجتهد واحد إذا بقيت الحياة لأنه (قدس سره) يعرف أن هذا الشيء حاصل في حياته وعند نطقه بهذا الكلام لهذا قال إذا بقيت حياته سيكون هناك ( أكثر من مجتهد، خمسة ، ستة ، عشرة).
فكلام البعض الذي يقول أن وصول الشيخ اليعقوبي للاجتهاد مرهون ببقاء السيد الشهيد الصدر على قيد الحياة لعدة سنوات يرده كلام السيد الشهيد (قدس سره) المقتبس أعلاه وكذلك يرده وصيته الأخيرة التي كانت قبل استشهاده بستة أشهر وتاريخها على وجه التحديد 5 جمادي الثانية 1419هـ الموافق 27 أيلول 1998 (هذا اللقاء في نفس الشهر الذي كان فيه لقاء أئمة الجمعة آنف الذكر) حيث جاء في وصيته : (والآن استطيع أن أقول أن المرشح الوحيد من حوزتنا هو جناب الشيخ محمد اليعقوبي).
2- في بقية كلمته يوضح السيد الشهيد الصدر (قدس سره) أنه قد حقق هدفه في إيجاد المجتهدين والمرجعية لأنه أوضح أن في ذمة المجتمع والحوزة تحديد أعلمهم وأخلصهم وأنه بعد ذلك يكون فارغ الذمة وأدى ما عليه وهذا واضح من قوله (أنا بعدها لا يهمُّني، لأنه في ذلك الوقت غير موجود وصافي على الماء وفارغ الذمة، أنا حينما كنت حياً أديت ما عليَّ).
وهذا استشراف واضح للمستقبل وفعلا قد رحل (قدس سره) بعد تأدية واجبه وتحقيق هدفه وقد ساهم بجهده وجهاده في المحافظة على الحوزة الناطقة والتشيع في إيجاد المجتهدين كما عبر (قدس سره) فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا .
الهوامشـــــــــــــــــــــ
[1] لقاء الحنانة (الجزء الثالث).
[2] لقاء أئمة الجمعة.
[3] من محاضرة له قبل شروعه في إلقاء دروس الكفاية.