في قلب التاريخ، تقف كربلاء ليس مجرد معركة، بل سؤالاً كبيراً يلاحق كل ضمير: ما الذي يجعل الإنسان ينهض في وجه الطغيان وهو يعلم أن السيف بانتظاره؟
الإمام الحسين لم يكن قائداً عسكرياً يخطط لفتح جديد، ولا زعيم قبيلة يبحث عن غنيمة أو جاه. كان يرى بعين الناقد اليقظ نظاماً يتحول إلى وراثة، وسلطةً تستعير اسم الدين لتكتم أنفاس الناس. فهم أن الخطر لم يكن سيف يزيد فحسب، بل وعي الناس المستسلم، الصامت، الذي يُضفي على ذلك السيف شرعية.
الحسين لم يخرج ليهزم جيشاً بعدته وعديده، بل خرج ليهزم فكرة. كان يعرف أن أخطر ما يواجهه ليس القوة العسكرية، بل ثقافة التبرير، وذاك الصوت الذي يهمس للناس: «اسكتوا، احفظوا أنفسكم، لا شأن لكم بالظلم ما دام بعيداً عن أبوابكم.» أراد أن يحطم هذا الصوت إلى الأبد.
لذلك لم تكن ثورته مؤامرة خفية، بل مسيرة علنية. لم يختبئ في الصحراء، بل اصطحب نساءه وأطفاله، وكأنه يقول للأمة كلها: «انظروا جيداً. هذه هي الحقيقة التي تريدون غض البصر عنها. هذه هي النتيجة حين تصمتون.»
إنه درس في السياسة والأخلاق معاً. السياسة التي تقوم على الشرعية، والأخلاق التي لا تساوم على الحق. في فلسفة الحسين، لا معنى لسلطة بلا عدالة، ولا قيمة لدين يبرر الظلم. كان يعرف أن الناس يحتاجون إلى صدمة توقظهم من سباتهم، حتى لو كانت هذه الصدمة دمه ودم أحبته.
حين نقف أمام هذا الحدث اليوم، لا نملك رفاهية تحويله إلى طقس خالٍ من المعنى، أو رواية حزينة تُحكى على هامش الحياة. الحسين لم يكن يدعو إلى البكاء عليه، بل إلى التفكير في خياراتنا. هل نُغلق عيوننا على الفساد حين لا يهددنا شخصياً؟ هل نسكت عن الاستبداد إذا كان يوفر لنا هدوءاً زائفاً؟
كربلاء ليست سؤالاً قديماً. إنها اختبار يومي. كل مرة يسكت فيها مجتمع عن ظالم، كل مرة يبرر فيها إنسان انحراف السلطة لأنها «قوية»، كل مرة يبيع ضميره من أجل السلامة الشخصية، يتكرر ذلك المشهد. والحسين يظل في وجهنا، يرفض، يقول لا، حتى لو كان الثمن حياته.
بعده لم تهدأ الأمة، لم يقبل الناس بالشرعية الزائفة التي فضحها دمه. خرج التوابون، وثارت النفوس. هذا دليل أن الدم الشريف لا يُهدر، بل يتحول إلى مرآة يرى الناس فيها بشاعة صمتهم.
في زمننا، تبدلت الأسماء، وتغيرت الأسلحة، لكن المرض نفسه باقٍ. لا يزال هناك من يستخدم الدين غطاءً للسلطة، من يبيع العدالة بالمال، من يقمع كل صوت حر. وكل مجتمع يكرر سؤال الحسين: هل ننهض، أم نصمت؟
فلسفة الحسين اليوم دعوة مفتوحة:
إلى أن نراجع أنفسنا قبل أن نلعن الطغاة.
إلى أن نسأل عن دورنا في شرعنة الفساد.
إلى أن نفهم أن التغيير لا يبدأ من فوق، بل من الوعي، من القرار الفردي أن نقول لا، حين يقول الجميع نعم.
الحسين مشروع يقظة، لا ذكرى بكاء. من يريد أن يحييه حقاً، عليه أن يكون مستعداً لدفع ثمن الحقيقة في زمن التزوير، وأن يحمل روحه شاهدة على أن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى بالسلامة، بل تُصان بالمواجهة.
في النهاية، ما ورثه لنا الحسين ليس مجرد قصة، بل مسؤولية. مسؤولية أن نبقى يقظين، أن نرفض أن نكون أدوات في يد الظالم، أن نؤمن أن الإنسان لا يُهزم إلا حين يرضى بالهزيمة. تلك هي فلسفة النهضة: أن يظل الضمير حياً، ولو تطلب ذلك دماً طاهراً يكتبه على صفحات التاريخ.
بقلم نهاد الزركاني