في زمنٍ تشظّت فيه المفاهيم وتفكّكت فيه القيم، وابتُذل فيه الدين بين خطاب سلطوي مغلق وخطاب طقوسي فارغ، يطلّ مشروع الشيخ محمد اليعقوبي بوصفه محاولة جادّة لإعادة الاعتبار للدين كقوة تحرير وبناء، لا كأداة تقييد أو خضوع. وفي قلب هذا المشروع تقف فكرة مركزية تُشكّل عموده الفقري: “بناء الإنسان الرسالي”.
الإنسان الرسالي، كما يطرحه الشيخ اليعقوبي، ليس ذلك الفرد الذي ينغلق في محراب العبادة أو ينكفئ داخل أسوار الطقوس، بل هو الإنسان الواعي، الفاعل، المتزن، الذي يُحوّل الدين إلى رسالة، والإيمان إلى مسؤولية، والعقيدة إلى طاقة تحرّك المجتمع نحو الإصلاح.
مرجعية الشيخ اليعقوبي لا تكتفي بتفسير النصوص، بل تسعى إلى تشخيص الخلل في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، ثم تطرح حلولًا واقعية قابلة للتنفيذ. إنه لا يرى المرجع كمصدر فتوى فقط، بل كقائد مشروع، وناقد حضاري، ومهندس لبنية المجتمع المسلم.
في هذا السياق، يتقدّم “الإنسان الرسالي” كمفهوم مضاد لعدة نماذج سائدة:
ضد الإنسان المقلّد الذي يعيش على هامش وعيه.
وضد الإنسان المنعزل الذي يظن النجاة في الفردية والتنسّك.
وضد الإنسان الانتهازي الذي يحوّل الدين إلى مطية للسلطة أو المكاسب.
ولأن المشروع الرسالي يقف على أرضية صلبة من الفكر والتربية والتنظيم، فإن مرجعية الشيخ اليعقوبي عملت على تأسيس مؤسسات معرفية، تربوية، شبابية، وإعلامية، تُجسّد هذه الرؤية في الواقع، لتكون بداية مسار طويل، لا رد فعل عابر.
ومع ذلك، فإن هذا المشروع، بطبيعته التغييرية، لا يسير في طريق مفروش بالورود. إنه يواجه مقاومة مزدوجة:
من الداخل، حيث الثقافة التقليدية تُقاوم كل دعوة إلى النقد والتجديد.
ومن الخارج، حيث الأنظمة السياسية تخشى الوعي الحرّ وتُحاصر كل مشروع يبني الإنسان لا يُخدّره.
لكن رغم ذلك، فإن مرجعية الشيخ اليعقوبي تواصل السير بهدوء وثبات، إيمانًا بأن “بناء الإنسان الرسالي” هو المدخل الحقيقي لأي نهضة، وأن التغيير يبدأ من الوعي لا من قاعات الحكم.
في زمن الارتباك والهزيمة الرمزية، لا نحتاج إلى مزيد من الخطابات، بل إلى مشاريع. ولا نحتاج إلى فتوى الصمت، بل إلى صرخة الوعي. وهنا، يبدو مشروع الشيخ اليعقوبي علامة فارقة في محاولة استعادة الدين كقوة تحرير وبناء، لا كإرث موروث خارج التاريخ.
بقلم نهاد الزركاني