بسمه تعالى :
كان حسن، شابًا في العشرينات من العمر، لا يشبه الكثير من أقرانه في شيء، لم يكن يهوى المقاهي ولا الحوارات العابرة، بل تعلّق قلبه منذ صغره بحب اهل البيت عليهم السلام وحب المساجد، والمجالس الحسينية، ومطالعة الكتب الدينية، يقضي ساعاته بين صفحات الصحيفة السجادية ومفاتيح الجنان وقراءة القرآن حتى اختلط بلحمه ودمه وحتى حفظه إجمالا، ويتنقّل بين سِيَر العظماء من الائمة الاطهار والانبياء والاولياء والعلماء، وكأنّه يطلب فيهم نورًا يُضيء له الطريق.
وذات يوم، انتشر اسم جديد في الأفق:
المرجع السيد محمد محمد صادق الصدر؟
كلماته واستفتاءاته وخطبه كانت تهزّ القلوب، وصوته كأنما يخرج من أعماق الغيب، وكان قد سمع عنه قليلا قبل ظهوره، وما ان رآه حتى وجد فيه الحلم والأمل، فشدّ رحاله والتحق بالحوزة، مقلّدًا إياه، متيّمًا برؤيته، مخلصًا لدعوته.
لم يكن حسن طالب علمٍ وحسب، بل كان داعيًا يحمل فكر السيد بين الناس، يُقنع الشباب بإتّباعه، يُدافع عنه باستماتة، حضوره لصلاة الجمعة في مدينته كان ثابتا، وأحيانًا كان يسافر إلى الكوفة فقط ليصلّي خلف السيد الشهيد،
كان يشعر أنه لا يصلي خلف إنسان، بل خلف نور.
وكان، كلما سنحت له الفرصة، يذهب للقاء السيد في مكتبه الشريف يطرح عليه أسئلته الشرعية، فيجيبه السيد بابتسامة أبوية، وكان يجلسه إلى جانبه احيانا، كما لو كان ابنه.
شارك حسن في كل ما دعا إليه السيد:
كتب بحثًا، نظَمَ شعرًا، شارك في نصب الجمعة، ومشى إلى كربلاء الحسين على الأقدام حبًا بسيد الشهداء عليه السلام ، امتثالًا لأوامر ولي الله في زمانه.
ودائمًا، في خلواته، كان يدعو:
اللهم احفظ السيد من كيد الأعداء، وأطل في عمره الشريف، واجعلنا وإياه من أنصار مولانا صاحب الزمان عليه السلام.
كان يرى فيه الأمل المنتظر، الرجل الذي سيحمل راية الإمام المهدي عليه السلام، ويُسقط طاغية العراق، ويقيم العدل بعد طول ظُلم واضطهاد.
وذات يوم في الخطبة ال 24 تقريبا مرت به رواية هدم حائط الكوفة وهو يتصفح بكتاب عن اخبار آخر الزمان، وكذلك في نفس اليوم وصله خبر لم يحدد قائله، مفاده إن السيد سيُستشهد في الخطبة الخامسة والأربعين في مسجد الكوفة، فربط بين الرواية والخبر، واستعد لذلك…
لم يتردد، اخبر بعض ارحامه واصدقائه، ودّع اهله، شدّ رحاله إلى الكوفة، قلبه يرتجف، روحه تُناجي:
يا رب، إن كان ولابد، فاجعلني شهيدًا معه…
في مسجد الكوفة تجدد الأمل من جديد لان السيد قال في خطبته الاخيرة: انتم سترون مني العجائب!
انتهت الصلاة ورجع السيد سالما، تاخر هو في المسجد بعد ان تفرق الناس اطمئنانا على الوضع وسلامة السيد، سأله بعض ارحامه واصدقائه ممن كان قد رافقه عما ذكره من خبر الاستشهاد :
شو ماكو شي لاهدم حائط الكوفة ولا استشهد السيد؟
فاجاب : الله العالم ان شاء الله ماكو شي، ولكنني افشي هذا الشيء واكرره لكي لايتحقق.
في نفس تلك الجمعة الحزينة وعند المساء صلى جماعة(المغرب والعشاء) خلف السيد الذي صلى هو ومن معه خلف الامام الحجة عليه السلام!
انتقل الى مكتبه الشريف وزاره حسن وسلم عليه مرتين واهداه هدية متواضعة فقبّلها السيد ووضعها في جيبه، وجلس حسن في محضره، والشعراء يلقون بقصائدهم بين يديه، ثم ودّع السيد من تبقى من الناس ومن بينهم حسن الوداع الاخير وغادر هو ونجليه للبيت، ولكن وقع ما لم يُحتمل استُشهد السيد!
لم يكن مع حسن حينها سوى دموعه، وذهوله، وصمت يشبه القيامة،
تبخّر الحلم وضاع الأمل، أو هكذا خُيّل له.
عاد إلى مدينته صباح اليوم التالي، تائه الروح، بقي يبكيه طويلاً، لا لأنه فقَدَ مرجعًا فقط، بل لأنه فقد الأمل، فقد الرجل الذي كان يرى فيه ظل الإمام الحجة عليه السلام.
لكنه في أعماقه، لم يمت تمامًا، بل استقر يقينٌ جديد:
أن الامل لا يموت… بل يتوارى قليلًا، ثم يعود، يعود برجل جديد، بمرجع بديل، يبعثه الامام عليه السلام لتستمر هذه الجذوه وهذه الروح في نفوس المؤمنين حتى يتحقق الأمل والنصر عما قريب باذن الله تعالى.
4 ذ. القعدة 1446…حسن العلي