قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾.
قيمة العمل
يُقيِّم كثير من الناس أعمال الإنسان بحسب ما يظهر منها، ويسري هذا إلى المجالات الخيريّة، فيقال: هنيئاً لفلان قد عمَّر مسجداً، وهنيئاً لفلان قد بنى مدرسة، ولله دَرُّ فلان قد شيَّد حسينيّة، فيكون البعد الظاهري للعمل في نظرهم هو الأساس في قيمته..
فهل تقييم الله لعمل الإنسان يُوافق نظرة هؤلاء أم يختلف؟
إنّ الجواب هو قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. فلم يقل الله ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ بل ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا..﴾.. فالمدار في نظرة الله تعالى هو حسن العمل.
فأوّلاً لا بدّ من عمل، إذ لا يكفي عند الله سبحانه الإيمان القلبي المجرَّد، كما يردّد بعض الناس لتبرير عدم إلتزامهم الدينيّ: (إنَّ الإيمان بالقلب).. كلّا، إنّ الإيمان القلبيّ وحده لا يكفي، فالله تعالى يقول: ﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ * وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
وقد سجَّل لنا التاريخ صورة رائعة من أطهر قلب بشريّ وأكبر مؤمن في تاريخ الإنسانيّة ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما خرج في آخر عمره الشريف ليلاً، وذهب إلى مقبرة البقيع، واستغفر للراقدين فيها، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: “إنّ جبرئيل ليعرض عليَّ القرآن في كلّ سنة مرّة، أمّا هذا العام فقد عرضه مرّتين، وإنّي لأظن أنّ موتي قد إقترب”. وفي اليوم التالي صعد المنبر، وأعلن قرب موته، وطلب من كلّ من يطلبه بشيء أن يأتي إليه ليؤدِّيه له. وواصل حديثه قائلاً: “أيها الناس، إنّه ليس بين الله وبين أحد نسب، ولا أمر يؤتيه به خيراً، أو يصرف عنه شرّاً إلّا العمل، ألا لا يدّعينَّ مدَّعٍ ولا يتمنّين متمنٍّ، والذي بعثني بالحقّ لا يُنجي إلّا عمل مع رحمة، ولو عصَيْتُ لهوَيْت، اللّهمَّ قد بلَّغت”.
عمل + إخلاص
ولا يكفي العمل وحده لينال مرتبة الرضا الإلهيّة بل لا بدّ أن يكون حسناً، وأهمّ شرط في حسنه هو صدوره عن خلفيَّة سليمة، ونيّة خالصة لله تعالى.
من هنا وردت دعوات الأنبياء والأولياء أن تكون الأعمال لله تعالى، فالإمام الصادق عليه السلام يقول – في ما ورد عنه -:”اجعلوا أمركم هذا، ولا تجعلوه للناس، فإنّه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله”.
واشتهر قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:”إنّما الأعمال بالنيَّات، وإنّما لكلّ امرىء ما نوى، فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كان هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.
طاووس والإمام السجّاد عليه السلام :
وقد قدَّم الإمام زين العابدين عليه السلام مشهداً حيّاً وبياناً بليغاً في ما رواه عنه طاووس اليماني حينما رأى الإمام السجاد يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبَّد، فإذا بالإمام يرمق السماء بطرفه ويقول: “إلهي غارَتْ نجومُ سماواتِك، وهجعَتْ عيونُ أنامِك، وأبوابُكَ مفتَّحاتٌ للسائلين، جئتك لتغفرَ لي وترحمَني وتُريَني وجه جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في عرَصات القيامة، ثم بكى… وأطال الدعاء والبكاء. فدنا منه طاووس وقال له: ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جانون أبوك الحسين بن عليّ عليه السلام، وأُمُّك فاطمة الزهراء عليها السلام، وجدُّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !! فالتفت إليه الإمام وقال: “هيهات هيهات يا طاووس!! دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدِّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً وخلق النار لمن عصاه، ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعتَ قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾ واللهِ لا ينفعك غداً إلاَّ تقدمةٌ تقدِّمها من عمل صالح”.
إذاً ما يرتفع إلى الله تعالى هو العمل الخالص لوجهه سبحانه ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
بُهلول ودرس الإخلاص
وقد أعطى بُهلول – وهو عالم كبير تظاهر بالجنون حتى لا يستلمَ مركز القضاء المحرَّم – درساً في الإخلاص وصِدق النيّة حينما مرَّ ورأى قوماً يبنون مسجداً فقال لهم: “لماذا تبنون هذا المسجد؟” فأجابوا: “وهل هذا سؤال يُسأل؟!!.. إنّما نبني لله سبحانه وتعالى”.. فذهب “بُهلول” إلى خطاط وقال له: انقش على بلاطة “مسجد بهلول”، فنقش ذلك على بلاطة، وأخذها بُهلول في الليل وعلَّقها على باب المسجد. في اليوم التالي أتى إلى أولئك القوم فوجدوا تلك البلاطة على باب المسجد، فأخذوا يفتّشون عن بهلول وهمُّوا أن يضربوه، لكنّه فاجأهم قائلاً: “لماذا غضبتم هكذا؟ لقد سألتكم عن سبب بنائكم لهذا المسجد فأجبتم إنّما نبني لله، فإذا أخطأ الناس وظنّوا أنّي أنا باني المسجد فإنّ الله لا يختلط عليه الأمر ويعلم أنّكم أنتم البانون!!!…”.
خاتَمُ عليّ عليه السلام:إخلاص أم ثمن غالٍ؟!
ولم يفهم بعض الناس قيمة الإخلاص عند الله تعالى، فاعتقدوا أنّ المقياس الماديّ، وكميّة العمل وحجمه هي التي تعطيه القيمة الحقيقيّة، وقد سرى هذا اللون من التفكير على فهم النصوص الدينيّة، فمثلاً حينما قرأ هؤلاء قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ وعلموا أنّ هذه الآية نزلت – كما هو المعروف عند المسلمين – في أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حينما كان في المسجد، وقد دخل فقير يطلب من المسلمين صدقة، فلم يعطه أحد، فرفع يديه إلى السماء وقال: “اللّهمّ إنّي دخلت مسجد نبيّك ولم يتصدَّق عليَّ أحدٌ من المسلمين”، وكان عليّ عليه السلام يصلّي، فأشار عليه السلام إلى الفقير بيده أثناء الصلاة وناوله الخاتم الذي كان يلبسه، في هذه الأثناء نزل جبرئيل على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، فخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد، وسأل المسلمين: من تَصدَّق في صلاته؟ فقيل له: إنّه عليّ عليه السلام، فكبَّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حامداً الله تعالى لنزول آية الولاية في ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
حينما قرأ أولئك الناس هذه القصّة لم يتعقّلوا أنّ آية الولاية الكبرى تنزل في شخص لأنّه تصدّق بخاتم عادي، إذاً لا بدَّ – بحسب تفكيرهم – من أن يكون الخاتم ذا قيمة ماديّة كبيرة، لذا قالوا: إنّ قيمة خاتم عليّ عليه السلام هذا تعادل خراج بلاد الشام، يقول الشهيد المطهّري: “ولكي يصدِّق الناس صاغوا هذا القول بشكل رواية”.
كلّا، إنّ الأمر لم يكن كذلك، فإن عليّاً عليه السلام لا يلبس مثل هذا الخاتم، وفي المدينة فقراء يئنّون، ولو ملكه فإنّه لا يهديه إلى فقير، بل يحيي به المدينة كلّها.
إنّ قيمة عمل عليّ عليه السلام الذي قام به وهو يصلّي تكمن في الإخلاص الذي امتلك قلب عليّ عليه السلام وهو يهدي الفقير خاتمه.
وليست صورة التصدُّق في الصلاة هي التي أنزلت آية الولاية، كما ظنّ بعض الصحابة الذين قال أحدهم: تصدقتُ في الصلاة بخاتم أربعين مرّة لينزل فيَّ ما نزل في علي عليه السلام فلم ينزل!!! إنّ القيمة عند الله ترجع لكيفيَّة العمل لا لكميّته.
حساب العالم
وتأكيداً على هذه النظرة الإلهيّة نورد حكاية عن عالمين صديقين تعاهدا على أنّ من يموت منهما قبل الآخر يطلب من الله تعالى أن يأتي صديقه في المنام ليخبره بما حدث معه، فمات أحدهما لكنّ الآخر لم يأتِ إليه في منامه إلاَّ بعد عدّة ليالٍ، وكان يبدو عليه السعادة والنعيم، فسأله صديقه عمَّا حدث معه، فأجاب بأنّ الملائكة سألته عن أعماله، فأخذ يعرض لها ما عنده. فقال: لقد ألَّفتُ الكتاب الفلاني، ونشرته بين الناس، لكنّ الملائكة أجابته: لقد ألَّفته ليقول الناس عنك عالم، وقد قالوا فلا أجرَ لك عند الله عليه. فقال العالم: لقد كنت أعظ الناس وأخطب بهم.. وأخذت الملائكة تدقّق في نيَّتِه في كلّ هذه الأعمال لتخبره بأنّه لم يكن مخلصاً فيها لله، ولم يبقَ عند العالم عمل يضعه بين يديه لينفعه في آخرته، وأخذ يشعر بحالة اليأس.. لكنّ الملائكة فاجأته قائلةً: (إنّ الله سيُدخلك الجنّة، لكن بفضل عمل لم تذكره لنا).. أخذ يتذكّر ما هو هذا العمل المهمّ الذي فعله في حياته ليكون سبباً في دخوله الجنّة دون كلّ الأعمال التي عرضها للملائكة لكنّه لم يتذكَّر، فعرَّفته عليه الملائكة حينما قالت له: (في ليلة من الليالي كنتَ جائعاً وفيما كنتَ ماشياً، وفي جيبك تفاحة، وَجَدتَ يتيماً جائعاً، فأخذتَ التفاحة من جيبك وأعطيتها لليتيم.. إنّ الله سيدخلك الجنّة بسبب هذه التفاحة!!!).
إخلاص الحسين عليه السلام
ونأتي إلى عمل الحسين عليه السلام في كربلاء لنجد فيه العطاء الكبير على المستوى الظاهري، فبعمله أيقظ الأمّة النائمة التي كان الإسلام يُمحى من حولها دون أن تحرّك ساكناً، فبعمله حافظ على الإسلام، كما يقول عالم الأزهر الكبير الشيخ محمّد عبده: (لو لا ثورة الحسين عليه السلام لم يبق للإسلام من أثر).
لكن لو سألنا الحسين عليه السلام عن داعيه الأساس في ثورته، فإنّ الحسين سيجيب بتلك الكلمات التي نسبت إليه قبيل أن يستشهد في كربلاء (ولو كانت بلسان الحال):
إلهي تركتُ الخلق طُرًّا في هواكَ
وأيتمْتُ العيالَ لكي أراكَ
فلو قطَّعتَني بالحبّ إرْباً
لَما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
قام الحسين عليه السلام بثورته لأجل الله تعالى، لأجل لقاء الحبيب.. ليأتي مُخْلِصاً له في كلّ أعماله.. إنّ القيمة الكبيرة لعمل الحسين عليه السلام في كربلاء هو عامل الإخلاص الذي تجلَّى في كربلاء.
إخلاص أصحاب الحسين عليه السلام
وأراد الحسين عليه السلام لثورته أن تقدّم أرقى نموذج في الإخلاص لله تعالى.. لم يُرِد الحسين عليه السلام الإنتصار العسكريَّ من ثورته، فهو كان يعلم أنّه سيستشهد هو وأهل بيته وأصحابه. فلنقارن بين هدف طارق بن زياد وهدف الحسين عليه السلام : فطارق حينما حطَّ وجيشه الرحال على ساحل البحر، أحرق السفن وأبقى القوت ليوم واحد وخطب في جيشه قائلاً: (هذا العدوُّ أمامكم والبحر وراءكم إمّا أن تنتصروا وإمّا أن تموتوا). كان طارق يريد الإنتصار العسكريَّ ففعل هذا.. أمّا الحسين عليه السلام فقد جمع أصحابه في ليلة العاشر من محرّم وخطب فيهم قائلاً:
“… أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أوصلَ من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً، وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّي سأُساقُ إلى العراق، فأنزل أرضاً يقال لها عمور أو كربلا، وفيها أستشهد وقد قرب الموعد، ألا وإنّي أظنُّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرَّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري”.
فقام مسلم بن عوسجة وقال: “أنحن نخلّي عنك؟ وبما نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله لا أفارقُك حتى أطعنَ في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبَتَ قائمُه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلُهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموتَ معك”.
وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: “والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنَّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك، أما والله لو علمت أنّي أُقتلُ، ثمّ أحيا، ثمّ أُحرق حيّاً، ثمّ أُذرّى، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً”.
وقام زهير بن القين وقال: “والله وددت أنّي قُتِلت، ثمّ نُشِرت، ثمّ قُتلت حتى أُقتل كذا ألفَ مرّة، وإنّ الله عزَّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك”. وهكذا تكلّم باقي الأصحاب… وفي جوف تلك الليلة خرج الحسين عليه السلام يتفقّد التلاع والروابي فلحقه نافع بن هلال الجملي خوفاً عليه، فرجع الحسين عليه السلام وقبض على يد نافع ثم قال هي هي، والله وعدٌ لا خُلْفَ فيه.
ثمّ قال عليه السلام لنافع: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يُقَبِّلهما ويقول: “ثكلتني أمي، إنّ سيفي بألف، وفرسي مثله، فوالله الذي منَّ بك عليَّ لا فارقتك حتى يكلا عن فري وجري”. إنّهم حقّاً “عشّاق شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم”.
فلنتعلّم من الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه كيف نخلص لله تعالى، فنقتبس الإخلاص درساً من دروس الحسين عليه السلام في عاشوراء، لنكون الأمّة المخلصة التي تنصر الله فينصرها نصراً مؤزَّراً من عزيز مقتدر.